«السخرية».. فن أصيل يؤاخي بين العفوية والذكاء
السخرية فن السهل الممتنع؛ فالساخر الناجح ينأى بنفسه عن التهريج والتسطيح والفهلوة وفي المقابل يغوص في الدعابة والمرح لإنارة العقول، وإذكاء الوعي وإيقاظه، وبث الرسائل إلى من يهمه الأمر.
يمكن أن يأتي هذا الفن في صيغة نص أدبي مكتوب أو رسم كاريكاتوري أو أداء تمثيلي أو غير ذلك من الأنماط الفنية المعروفة. فهو أدب أو فن قائم على المفارقة أو النقد اللاذع لسلبيات الواقع المعيش أو المثير للضحك أو المقدم أحداثه وسردياته بشكل غير متوقع أو مبالغ فيه يمكن أن يندرج في دائرة الفن الساخر ما دام أس هذا الفن حاضرا فيه ألا وهو المفارقة.
يعرفها أحدهم بأنها الفن الذي يباغت الفهم دون استئذان، ويستدعي فيك كل الحواس دفعة واحدة، ولها القدرة في أن تحدثك بفرح عن حزن كما لها أن تحدثك عن حزن بفرح. من أبرز التشبيهات التي صادفتنا ونحن نبحث في تاريخ هذا الفن قول أحدهم إن السخرية أشبه بذاك الفلاح الذي يلبس بذلة حديثة مع ربطة عنق وحذاء أنيق وفوق الكل جلبابه الأصيل.
#2#
إنها القدرة على توظيف المفارقات ما يجعلها صاحبة قدرات عز نظيرها في باقي الأجناس الأدبية، بل هي الفن الوحيد الذي يصل إلى الوجدان دونما تكلف ولا إقصاء في اللغة أو عنف في التعبير. إنها باختصار ذاك الفن الذي استطاع أن يؤاخي بين العفوية والذكاء، في وقت طالما اقترنت فيه العفوية بالسذاجة والسطحية والاستغفال.
رغم كل ما قيل في المفهوم وعنه، فالمؤكد أنه لا يزال يعاني إشكالية في الفهم والتعريف والتوصيف، ولم تشفع أصالة وعراقة هذا الفن، الذي يرجح أغلب المهتمين به أنه قديم قدم الكتابة وفنونها وطرائقها، من تجاوز أسئلة الماهية التي تحاصره.
يلجأ المبدع عادة إلى السخرية، لحاجتهم إلى أسلوب التورية والتلميح الذي يفتح مجالا واسعا للخوض في الممنوع، وتجاوز الخطوط الحمراء التي يصعب تجاوزها في الكتابة الجدية المباشرة أو الأداء التمثيلي الصريح. ولم يخل عصر على مر التاريخ من هذا الفن، وإن كان ذلك بصيغ وقوالب متباينة، تأتي في الأغلب الأعم قياسا مع متغيرات السياق الاجتماعي والثقافي لأصحاب ذاك الزمان.
لم يحصد التأريخ لهذا الفن الإجماع في أي جانب من جوانبه إلا في الاتفاق على أن كل الشعوب والحضارات عرفت السخرية بشكل من الأشكال. فالمصادر التاريخية تذكر عند الرومان هوراس (Horatuis) وجوفينال (Juvenal)؛ الأول معروف بالسخرية البادرة، والثاني بالسخرية اللاذعة. وتحيلنا عند الإسبان إلى دون كيشوتيه (Don Quijote) ومعاركه. وفي الثقافة التركية نجد نصر الدين خوجة (Nasr Eddin Hodja)، وللبلغاريين جابروفو (Gabrovo)- نسبة إلى مدينة وسط بلغاريا-، ولدى اليوغسلافيين شخصة آرو المغفل ... وقس على ذلك لدى بقية الشعوب.
على غرار الثقافات الأخرى كانت للعرب لمسة في الفن والكتابة والأدب الساخر، ونقول دون منازع أن لهذا الفن ـــ بصغية المعاصرة ـــ في التراث العربي ثلاثة رواد، يأتي في مقدمتهم المثقف الظريف أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ - صدر حديثا كتاب بعنوان "فن السخرية في أدب الجاحظ" للمؤلف أحمد عكيدي (240 صفحة) ـــ إلى جانب المبدع على لسان الحيوانات وبأسلوب التورية ابن المقفع، ومعهما رهين المحبسين وصاحب اللزوميات الشاعر أبو العلاء المعري.
لماذا أنزلنا هؤلاء دون غيرهم منزلة الرواد، في وقت يذهب فيه البعض إلى ربط هذا الفن بأبي الغصن دجين بن ثابت الفزاري، الذي عاصر الدولة الأموية، المعروف في الثقافة العربية باسم "جحا". الجواب عن ذلك، وببساطة، يتجلى في قدرة هؤلاء الثلاثة على إصابة كنه وجوهر فن السخرية في أعمالهم التي تولت نقل الرسالة المرة في نقد الواقع نقدا ايجابيا.
فحقا استطاع هؤلاء المبدعون الكبار؛ وحين تشتد الآلام، أن يبتسموا، وتكون ابتسامتهم أشد أثرا من الدموع. فاللون الساخر لون صعب الأداء، يتطلب موهبة خاصة وذكاء حادا، تنعكس في كلمات ومواقف ساخرة.
وهنا يحذر البعض بل يسترعون انتباه المبدعين إلى أنه وجوب التعامل مع الفن الساخر بفرض مسافة أمان ضرورية، وأي أن ينتج ويقدم باعتباره فنا تنبع أهميته من محتواه وليس من اسم صاحبه، بمعنى آخر، يجب ألا يتحول الكاتب ذاته إلى نص، لأن ذلك يعني أن السخرية ستكون من الكاتب وليس من المشهد.
بعيدا عن التأصيل لهذا الفن العالمي العريق، نعرض لبعض ما تتناقله الألسن عن أطرف مواقف السخرية في التاريخ. نستهلها بسخرية الفيلسوف سقراط من قاتليه عند تجرعه كأس السم، جوابا على حيرة تلاميذه بقولهم: "من المؤسف أيها المعلم أن تموت دون ذنب ارتكبته"، فيرده ضاحكا: "وهل تظنون أن الموت كان يمكن أن يكون أسهل لو كنت مذنبا".
وفي ارتباط بموضوع السخرية في مواجهة الموت سخر أحد رجال الثورة الفرنسية، من خصومه وأضحك الحضور، حين قال قبل إطلاق الرصاص عليه حين قال مخاطب من يتولون التنفيذ: "رصاصة واحدة تكفيني ودع الباقي لبريء آخر".
حديثا، يحكى أن رئيس الوزراء البريطاني (السمين) ونستون تشرشل قال لبرنارد شو (النحيف) ساخرا: "من يراك يا شو يظن أن بريطانيا في أزمة غذاء" فما كان من هذا الأخير إلا أن أجاب بسخرية أقوى، قائلا: "ومن يراك يعرف سبب الأزمة".
سخرية برنارد شو لم يسلم منها حتى المقربون، فذات يوم زاره أحدهم وعندما دخل عليه حجرته وجده يتحدث مع نفسه، فهم بمقاطعته قائلا: "أتتكلم مع نفسك؟" فرد عليه برنارد شو: "نعم إنها عادة، فقد اعتدت منذ الصغر أن أتحدث كل يوم مع شخص ذكي!".
بالعودة إلى ثقافتنا العربية نجد خزانا في الموضوع ننتخب فيه سخرية أبي العلاء المعري من كنيته حين قال: "دعيت أبا العلاء وذاك بين/ ولكن الصحيح أبو النزول". وفي الأثر كذلك أن رجلا أراد إحراج المتنبي، فقال لـه: "رأيتك من بعيد فـظننتك امـرأة"!فرد عليه المتنبي بقوله: "وأنا رأيتك من بعيد فظننتك رجلا".
يحكى أيضا أن أعرابيا أكل عند أمير وكان شرها في أكله. فقال الأمير: "ما لك تأكل الخروف كأن أمه نطحتك؟". فرد عليه الأعرابي ساخرا: "وما لك تشفق عليه كأن أمه أرضعتك". ونختم بمساجلة تكشف أن السخرية جبلة في التراث العربي غير منحصرة في فئة النخبة بل تمتد إلى العامة. يروى أن رجلا رأى امرأة فقال لها: "كم أنت جميلة"! فقالت له: "ليتك جميل لأبادلك نفس الكلام"! فقال لها: "لا بأس اكذبي كما كذبت".