في حين ينزف الآخرون «دما» ينزف الكاتب «حكايا»
اسم الكاتب هو أول ما ستبدأ بنسيانه
ثم عنوان الراوي حتماً، الحبكة
الخاتمة المحطّمة للقلب، الرواية بأكملها
التي أصبحت فجأة رواية لم تقرأها من قبل.
مقتطفات من بداية قصيدة "نسيان" لبيلي كولنز، وهي من ضمن الكتاب البديع: "اخرج في موعد مع فتاة تحب الكتابة"، بفكرته المتميزة، عن دار الكلمات، وهو كتاب طبع في بداية عام 2015، وأعيدت طباعته عدة مرات. وقد قام باختيار مقتطفاته وترجمتها الشاعر والمترجم اليمني الشاب محمد الضبع، الذي اشتهر عبر مدونته الإلكترونية: "معطف فوق سرير العالم" بلغة رفيعة وأفكار متجددة تحمل اهتماماً بالأدباء وما يعتلج دواخلهم.
الكتاب عنوانا ومضمونا
على الرغم من أن عنوان الكتاب يوحي بأنه يسلط الضوء فقط على الكاتبة الأنثى والبحث عن جماليات الوقوع في حبها وفهمها كإنسانة مبدعة بأحاسيس مرهفة وهموم تختلف عن نظيراتها. وذلك اعتمد بشكل أكبر على مقال مثير للاهتمام لكاتب مجهول الهوية بذات العنوان حوى تعبيراً عن ذلك. "اخرج في موعد مع فتاة لم يسبق لك أن رأيتها في ملابس نظيفة تماماً بسبب قهوتها التي تحملها معها دائماً. وبسبب بقع حبر قلمها". إلا أن الكتاب ككل يظهر مقسماً لعدة فصول تحوي مواضيع مختلفة تربط ما بين الحب والكتابة والسلوكيات المحيطة بها، وتغوص في عوالم الأدب بنظرة رومانسية تضخم من الأحاسيس وتجعلها نبضاً يحيط بعوالم المثقفين، ويجعلها ركيزة ودافعاً للكتابة والتنفيس عما كبت من هموم وأحلام.
ممازجة الأدبيات
هو أقرب إلى بوح ذكي وقراءة تمزج ما بين أدبيات مختلفة من شعر وخواطر رسائل بوح ومقولات بعضها شهير والبعض الآخر يستحق الإشادة، كل ذلك يحمل بعداً ثقافياً وفلسفياً وسيرا ذاتية، متناثرة تعبر عن آراء أدباء عمالقة أمثال بورخيس وكافكا ونابوكوف وبوكوفسكي وسارتر وماركيز وآخرين مغمورين، من خلال انتقائية بديعة في اختيار الاقتباسات. بدءا بفصل عنوانه "ما هو الحب" يغوص فيه وكأنه إحساس يقتصر على الأدباء فحسب فيفككه منذ بداياته حتى الفروغ منه، بل حتى الوصول إلى مرحلة الاستسلام والاعتراف بأنه "لا يمكنك الحفاظ على شخص يريد المغادرة".
الإبداع والقصص الكارثية
أما الفصل المعنون بـ "اخرج في موعد مع فتاة تحب الكتابة" الذي يحوي مقال الشخص المجهول الهوية، الذي جاء على غرار مقالات أخرى خفيفة اشتهرت إلكترونياً تضع قائمة وعظية للآخرين تنصحهم كمقال بعنوان "18 سببا للخروج في موعد مع فتاة تحب السفر"، الذي يظهر وكأن الكاتب المجهول قد استقى منه الفكرة للحديث عن الكاتبات. وعلى ذات النسق يكمل الفصل بوحه بالتطرق إلى 15 حقيقة مثيرة للاهتمام فيما يخص قلب الكتاب وطبيعة بوحهم وعلاقاتهم، وظهور الكتابة غالباً منذ الصغر وكأنها منذ الأزل، بل وربط سمات الكاتب وبدايات إبداعه بحدث كارثي. إذ لا بد من وجود شرخ أثر في الشخصية، ما اضطر المبدع إلى محاولة التنفيس عما يختلج بداخله عبر الكتابة، كقصة كارثية في الطفولة. "مهنتك كصاحب روح معذبة تبدأ بقصة كارثية حدثت لك في الطفولة". ويرتبط ذلك فيما بعد بأحداث أخرى كزواج تعيس أو علاقة تعيسة. والمفارقة كما تطرق الكتاب لها تكمن في أنه في الحين الذي ينزف الآخرون دماً ينزف الكتاب حكايا.
مغامرة الحب في وقوع كاتب
يظهر محمد الضبع من خلال اقتباساته وكأنه يرضي غرور الكتاب ويجسد نضالهم الداخلي بأسلوب راق بديع، بل وتظهر عملية الوقوع في حبهم وكأنها مغامرة فريدة من نوعها. "إذا أحببتنا، ولو لبعض الوقت، لن نتركك تغادر سالماً". وبأن الشخص الآخر سيقع في تناقضه. "ستصبح أنت من تبعث الإلهام، وستصبح أيضاً الشخص الوحيد الذي يقف في طريقه".
وعلى الرغم من أن الكتاب لا يحمل بعداً عميقاً إلا أنه يعبر عن الأزمة الوجودية التي يعيشها المبدع بعيداً عن أي أسلوب وعظي، إنما باستعراض لحالات إنسانية وبوح أدبي، ووصف للكاتب كشخص يصف حالة حب مستفحلة، حب للكتابة إلى جانب حب لمصدر إلهامه.
أزمة الأنا المبدع والآخر
تلتفت صفحات الكتاب ليس فقط للذكور من المبدعين المشاهير وعلاقاتهم بمحبوباتهم، وهو متعارف عليه أكثر من المرأة المبدعة والغرق في وصف شخصيتها المنفردة بأسلوب بديع كانتحار سيلفيا بلاث. يظهر المبدع هنا وكأنه يواجه أزمة مستمرة لديه كالأنا والآخر، والآخر هنا يبدو بمثابة كل من يخالطونهم من غير المبدعين. كبوح الكاتب كواقليا كوكو: "لا أريد أن أعيش كفنان غريب ووحيد، يساء فهمه طوال الوقت، غارق في ذاته". في مقال بعنوان "خيمياء الحياة كفنان".
التطرف في الحب
غرابة الأطوار المرتبطة بالإبداع والرغبة في التطرف في كل شيء يعمق من الإحساس بالحب أو حتى رثائه ساعة مفارقته. يظهر ذلك من خلال اختيار الكاتب رسائل لمشاهير مبدعين. كرسائل من نابوكوف إلى حبيبته فيرا: "لست معتاداً على أن يفهمني أحد، لست معتاداً على هذا لدرجة أنني اعتقدت في الدقائق الأولى من لقائنا أن الأمر أشبه بمزحة"، أو وصف النابغة دوستوفيسكي: "ما هو الجحيم؟ معاناة ألا أكون قادراً على الحب". ذلك هو الحب الذي يحاول الكتاب وصفه، وهو من نوع آخر هو حب المبدعين. كما تصفه الكاتبة سوزان سونتاج من منظورها: "وقوعك في الحب يعني استعدادك لإتلاف نفسك من أجل الآخر". أو جانيت لوبلانك بعبارة مختصرة جميلة: "تبا للتوازن، جرّب الانحياز". ذلك هو التجسيد الرائع لواقعهم وهمهم الثقافي والكتابي والعاطفي البعيد عن العقلانية. كما يقتبس الكتاب مقولة لكريس أبو زيد: "الحياة بطريقة صحية وآمنة أفسدت الحب". ويعني ذلك عدم اكتراث البعض للتعبير عن الحقد والغضب: "أنا قبيح. أتمنى أن تكون قبيحاً مثلي". كما يذكر كيرك هنسلر.
الكتاب في كل مرة تقرأه فيها يشعرك كأنها المرة الأولى، ويجعلك تستوعب جوانب أخرى لم تكتشفها من قبل. إلا أنه في نهاية المطاف يصف بتعبير بسيط يختصر كل ذلك. "لأنه لا يوجد شيء أفضل من الخروج في موعد مع فتاة تحب الكتابة".