خفض إيجار السكن جزء من حل أزمة الإسكان «1 من 2»
سجلت تكلفة إيجار السكن محليا ارتفاعا وصل إلى 135 في المائة خلال الفترة 2006 - 2016، وهو متوسط نسبة الارتفاع في تكلفة الإيجار التي لا تقارن بعدد من المدن الرئيسة، التي فاق الارتفاع فيها هذا المعدل الكبير، حيث وصلت نسبة ارتفاع إيجار السكن خلال نفس الفترة في مدينة الدمام إلى أعلى من 272 في المائة، وفي مدينة الرياض إلى 249 في المائة، وفي مدينة جدة إلى 127 في المائة، فيما جاءت معدلات نمو تكلفة إيجار السكن خلال نفس الفترة في كل من مكة المكرمة بأعلى من 74 في المائة، وفي المدينة المنورة بنحو 43 في المائة، وفي أبها بنحو 65 في المائة، وفي بريدة بأعلى من 64 في المائة.
تزامنت تلك الارتفاعات الشاهقة جدا في تكلفة إيجارات السكن خلال أقل من عقد زمني واحد، مع ارتفاعات أكثر تسارعا في أثمان الأراضي والمنتجات العقارية، ليقع المواطن وأسرته ضحية "رالي" متسارع جدا للأسعار دون ظهور حلول أو إجراءات توقف رحى طاحونة هذه الأزمة التنموية. وجد المواطن نفسه على أثر هذا السباق المحموم أمام خيارين لا ثالث لهما، خياران كلاهما مر، لا يعرف تحت وطأتهما المريرة أي لذة للاستقرار المعيشي اللازم، فإما الرضوخ لدفع إيجار سكنه، واستقطاع ما بين 50 إلى 65 في المائة من دخله السنوي لقاء دفع تكلفة الإيجار، وعليه أن يتدبر أمره المعيشي بالبقية الباقية من دخله "مصاريف، سداد قروض مصرفية إن وجدت"، أو أن يرضخ لسطوة الخيار الثاني الأثقل وزنا، والأكثر صعوبة، بأن يتحمل أعباء قروض عقارية طائلة، تمتد فترة سداد أقساطها إلى 20 - 25 عاما، والمقدر أيضا أن يصل استقطاعها إلى نحو 65 في المائة من دخله السنوي، لقاء شراء سكنه الخاص، هذا في حال توافرت لديه الشروط والضوابط المقررة، أو أن يرضخ لأسر الخيار الأول "مكره أخاك لا بطل".
الأمر الباعث على القلق الكبير هنا؛ ماذا إن استمر "رالي" ارتفاع أسعار الأراضي والعقارات والإيجارات في التسارع أكثر مما مضى؟ وهو سؤال مشروع جدا طرحه في ظل تصدي عدد من الأطراف العقارية النافذة سوقيا واقتصاديا، لأجل استدامة هذا "الرالي" وحمايته القصوى من أي تدخل كان، سواء من الأجهزة الحكومية ذات العلاقة، أو من أطراف أخرى تنظر بقلق كبير جدا إلى الآثار الوخيمة تنمويا واقتصاديا لاستمرار هذا "الرالي" العابث بمقدرات البلاد والعباد!
لم يعد بمقدرة الحكومة ولا القطاع الخاص ولا الأفراد على مستوى الأجور والرواتب اللحاق بتسارع وتيرة هذا "الرالي العقاري المتهور"، كون الظروف الاقتصادية والمالية الراهنة، إضافة إلى البرامج الواسعة للتحول الشامل المنشود للاقتصاد الوطني تحت مظلة "رؤية 2030"، تستهدف بالدرجة الأولى الترشيد في الإنفاق، مقابل زيادة تحفيز التشغيل والإنتاج وتنويع قاعدته، وكلاهما يتعارض تماما مع توجهات الفاعلين والمشغلين لآلة "الرالي العقاري"، التي تعتمد على اكتناز واحتكار الأراضي، إضافة إلى إدارة طاحونة المضاربات على جزء محدود منها، سعيا إلى رفع الأسعار والدفع بها إلى أعلى دون توقف! ثم ماذا بعد؟!
السؤال الصريح الآخر؛ من الأجهزة الحكومية التي أظهرت تصديا حقيقيا وشاملا لآلة "الرالي العقاري"، سواء على مستوى تكلفة إيجارات السكن المتسارعة الارتفاع، أو على مستوى أسعار الأراضي والعقارات الأسرع ارتفاعا من سابقتها؟ النتيجة كما هي ظاهرة للعيان أعلاه، تثبت وفقا للبيانات الرسمية الصادرة عن كل من وزارة العدل والهيئة العامة للإحصاء، أن لا أحد من الأجهزة الحكومية نجح في التصدي لهذا "الرالي العقاري المجنون"! ولا يقبل من أحد هنا، زعمه أن التصدي المطلوب من الأجهزة الحكومية ذات العلاقة أمر مرفوض كونه تدخلا في قوى السوق العقارية المحلية، المفترض أن تتمتع كغيرها من الأسواق المحلية بالحرية والمنافسة الكاملة، والرد على حامل هذه الحجة الواهية، أن السوق العقارية تفتقر في الأصل إلى الحرية والمنافسة بدرجة كبيرة جدا، والتصدي أو التدخل الحكومي المطلوب هنا، يتمثل بالدرجة الكاملة في الضرورة القصوى لفرض منطق الحرية والمنافسة داخل السوق العقارية، وهو على العكس تماما من وضعها الراهن المكتظ بالاحتكار والمضاربة، لهذا أنصح أصحاب هذه الحجة الواهية بتأجيل طرحها إلى أن تستقيم حال السوق العقارية، وتقف فعلا على أرض أكثر اقترابا من الحرية والمنافسة، حسب زعمهم، ذلك أن حجتهم هنا لا تتعدى دفاعا مستميتا عن استدامة التشوهات الجاثمة الآن في أغلب أنحاء السوق العقارية المحلية، مع التأكيد التام على أنه لو كانت السوق العقارية المحلية تتمتع بالحرية والمنافسة كما يزعم أولئك القوم، لما وجدنا أنفسنا أبدا أمام هذه الوعثاء التنموية البالغة التعقيد، المتمثلة في أزمة الإسكان المحلية.
ذكرت سابقا هنا؛ أن من أهم أسباب زيادة غلاء إيجارات السكن لدينا، الغياب شبه التام للرقابة على عقود الإيجارات، التي تفتقر بدورها إلى أمرين مهمين؛ الأول: تقادم الأنظمة التي تحكم وتراقب وتضبط تلك العقود، وتأخر وزارة التجارة والاستثمار "بمسماها الجديد" كونها المسؤولة الأولى عن مراقبة هذه السوق في الإسراع بتحديث تلك الأنظمة ولوائحها. الأمر الثاني: أفضى هذا الفراغ التنظيمي والرقابي الكبير إلى تفشي أشكال التلاعب والرفع غير المبرر للإيجارات السكنية والتجارية بدرجة لافتة، إلى الدرجة التي لا ولن يجد ضحايا تلك المبالغات الكبيرة في رفع تكلفة الإيجارات المرجعية ما يكفل لهم أي حقوق أو تعويضات، في الوقت ذاته الذي ستجد فيه في جانب الدفاع عن مصالح ملاك تلك العقارات المؤجرة عديدا من المسوغات القانونية، والجهات التي تسخر الوقت والجهد والموارد لعل أكثرها فعالية اللجان العقارية في الغرف التجارية والصناعية، وصلت قوتها النافذة حتى إلى الدفاع والتبرير لكل أشكال التلاعب والتحكم بالرفع غير المبرر للإيجارات السنوية.
كما لم يعد مقبولا من وزارة التجارة والاستثمار أن تقف مكتوفة الأيدي أمام هذا "الرالي" لأسعار إيجارات السكن، كونها الجهة المسؤولة الأولى عن ضبط الأسعار ومنع التلاعب أو التدليس بها في الأسواق المحلية، فكما أنها قامت بكل نجاح واقتدار ولا تزال بأداء كثير من أدوارها ومسؤولياتها التنظيمة والرقابية، وحماية المستهلكين من كثير من أشكال الغش والتدليس والتلاعب بالأسعار في السوق المحلية، بل وقامت بتطبيق العقوبات والجزاءات والغرامات على المخالفين والمتورطين في تلك المخالفات، فلا بد أن تسارع الوزارة أيضا بتولي مهامها ومسؤولياتها تجاه حماية المستأجرين من الأفراد والأسر وحتى منشآت القطاع الخاص، من أي مخالفات تتضمن التلاعب أو الرفع غير المبرر لتكلفة الإيجارات! وللحديث بقية لا تقل أهمية عما تقدم ذكره. والله ولي التوفيق.