البيئة الدولية .. وأمن الخليج
إن البيئة الدولية، كأي منظومة استراتيجية تعيش حالة من التغيير المستمر، وتشهد أوقاتا من الاستقرار وعدم الاستقرار. الجدير بالذكر أن الأوقات التي تشهد أكبر قدر من عدم الاستقرار تميل إلى تبني منظومات لا خطية ومقاربات ترتكز على تحليل المشكلات، وبالتالي تقوم ديناميكية جديدة تهدف إلى تنظم البيئة الدولية بنفسها.
إن التغيرات الكبرى في البيئة الإقليمية مثل التدخل الروسي في البيئة الاستراتيجية الإقليمية علاوة على الاتفاق النووي، وتفعيل إيران لأدواتها من اللاعبين غير الحكوميين والفاعلين ليس فقط بشكل سياسي بل مالي واقتصادي الذي من شأنه تغذية منظومتها السياسية والمنظماتية، أوجدت نوعا من الاضطراب في التوازن النسبي.
ولذلك نتساءل دائما عن طبيعة البيئة الاستراتيجية الجديدة التي تعيش بها دول الخليج، وكيف يمكن التعامل معها. هنالك كثير من الأدبيات التي تحاول استيعاب أو وصف البيئة الاستراتيجية الجديدة في مصطلحات وتعبيرات مفيدة لمختلف الأوساط التجارية، والحكومية، والأكاديمية، والعسكرية، والدينية. والقاسم المشترك، كما يتحدث هاري يارجر، هو الإدراك أن البيئة تشهد عملية إعادة تشكيل جذرية، نتيجة للتغيرات التي تعزى إلى التقاء عدد من العوامل والأحداث والاتجاهات: تدخل قوى عسكريا وإحجام قوى أخرى، التغيرات الاقتصادية الكبرى، بروز العولمة، التقدم الهائل في التقنية. وفي قلب هذه التغيرات تبرز مهمة "اكتناز المعلومات والمعرفة، وهذه تتضمن إنتاج المعلومات والمعرفة، وتوزيعها وتخزينهما، واستخدامهما بوصفهما النشاط الأساس اجتماعيا واقتصاديا، على غرار الموسم الزراعي، أو إنتاج السلع المصنعة، وهذا يعني تغيير نمط الحياة الاجتماعية والاقتصادية على مستوى العالم أجمع.
ومثل ذلك التغيير الواسع الانتشار يصيب منظومات فرعية متعددة، ويترك تأثيرات درامية في البيئة الاستراتيجية وفي الدول والأطراف الفاعلة الأخرى التي تشكل المنظومة الدولية، وعلاوة على ذلك فهي تفرض تغييرات أخرى على المستوى المحلي كذلك لمعظم الأطراف المحلية المعنية.
تعيش البيئة الأمنية الإقليمية شمالي دول الخليج حالة من انعدام الأمن وتعدد الفاعلين من الدول، وكذلك تعدد الفاعلين من دون الحكومات، وكذلك الفاعلين المحليين، ويعيش كل من سورية والعراق أسوأ حالاتهما الإنسانية من قتل وتدمير وهلاك، الآلات العسكرية لا تترك أخضر ولا يابسا حتى تفتك به.
والمتأمل للواقع الجيوستراتيجي، يرى تداعيات كبيرة لما يحدث في المدن السورية والعراقية مثل حلب والموصل، وفي حالة من رخاوة الحدود، تدفع إيران كذلك بميليشياتها نحو تهجير وتغيير سكاني علاوة على التغيير الجغرافي الحاصل بسبب انتقال السيادة أو انعدامها في المناطق السورية والعراقية.
وتحمل تلك التغيرات الخطيرة، دلالات على أن المنطقة العربية أصبحت على حافة خطر كامن، ذي بعد دولي وإقليمي، أما الدولي فهو تغير التوازنات وانعدام الرؤية بين الفاعلين الدوليين الأكبر في العالم أمريكا وروسيا، وأما البعد الإقليمي فهي المكاسب الإيرانية على أرض الواقع في كل من العراق وكذلك سورية.
وهذا يتطلب وقفة مهمة وقيمية للوقوف ومساعدة الشعوب في كل من سورية والعراق في ظل آلات الهدم والدمار التي تتكالب عليهم من كل مكان، ومثل هذا الدعم لا يكفي فقط أن يكون دعما ماليا أو مساعدات إنسانية وإنما تتطلب حماية جوية للمناطق السكانية، وكذلك حماية للمدن السورية من القتل والتهجير.
من السياق السابق يتضح أن هناك حاجة إلى تقييم البيئة الاستراتيجية باستمرار، وأن دور الخبراء الاستراتيجيين وخبراء الأمن القومي أصبح أكثر أهمية نظرا لأن صانعي السياسات يطلبون إعادة تشكيل البيئة الاستراتيجية للتوافق مع الشروط المفضلة للدولة، ولا سيما أن مسؤولية الدول العربية والإسلامية، لا تتقيد بالحدود الوطنية، بل تتخطى تلك الحدود للوقوف مع الأشقاء العرب والمسلمين.
ولذا فإن من المهام الرئيسة، فهم طبيعة البيئة الاستراتيجية ومنظوماتها المتنوعة، ومدى التأثير والتأثر من التغيرات الحاصلة ومستقبلها، وكذلك بناء سياسة أو استراتيجية ترتكز على الدولة والإقليم لتضمن ازدهارها وحفظ أمنها القومي ومصالحها الاستراتيجية. ويتوقف نجاح الاستراتيجيين وصانعي السياسات على مقدرتهم على استباق التفاعل داخل البيئة وتطوير أعمال استراتيجية مناسبة، والاحتفاظ بسيناريوهات مستقبلية لكل حالة التي من شأنها أن يكون هنالك رد فعل يمتص الصدمات أو الأزمات للتفاعل معها بشكل يضمن مصالح الدولة والأمة.
وبالله التوفيق