المرض الهولندي .. وعلاقتنا به
المرض الهولندي بعبارة مبسطة ربما زيادة عن اللازم، يقصد به تضرر أنشطة أو قطاعات خاصة إنتاجية، من جراء ازدهار سريع "رواج" لنشاط آخر. وعكس ذلك ازدهار بعض الأنشطة على حساب أنشطة أخرى.
أصل التسمية كان على الآثار غير المرغوب فيها في الصناعة الهولندية من جراء اكتشاف الغاز الطبيعي في هولندا في القرن الـ 19 الميلادي. كيف؟ الاكتشاف أدى إلى ازدهار قطاع الغاز، وجلب ثراء للاقتصاد الهولندي، تسبب في زيادة أجور اليد العاملة الهولندية مقارنة بالأجور في أوروبا، وارتفاع الأسعار في هولندا بصفة عامة، وأدى ذلك إلى ارتفاع سعر الصرف الاسمي والحقيقي للعملة الهولندية، وهذا بدوره أدى إلى ضعف منافسة الصناعة الهولندية، ومن ثم إصابتها بالانكماش. كما تسبب ذلك الاكتشاف وما تبعه من ازدهار في انخفاض نسبي في أخلاقيات العمل بين الهولنديين مقارنة بالأوروبيين الآخرين.
توسعت التسمية لتشمل كل حالة ارتفاع في سعر الصرف الحقيقي، ولذا يسمي بعض الكتاب هذا الارتفاع المرض الهولندي. وللتوضيح، فإن أسعار الصرف المعتاد على سماعها (مثل كون سعر صرف الريال هو 3.75 ريال لكل دولار أمريكي) لا تعكس فروقات مستوى الأسعار بين الدول، ولذا فهي أسعار صرف اسمية، أما أسعار الصرف الحقيقية فتعطي أسعار سلع وخدمات دولة مقارنة بأسعار سلع وخدمات دولة أو دول أخرى، ولذلك فهي تعتمد على أسعار الصرف الاسمية وعلى مستويات الأسعار في الدول.
شخص المرض الهولندي في بيئات مختلفة صناعية وغير صناعية، أذكر منها ما يلي:
1. اكتشاف الذهب في أستراليا في وسط القرن الـ 19 الميلادي. هذا الاكتشاف كان له أثر سلبي في بعض الصناعات الأسترالية.
2. الرواج "السريع" في القسم المتقدم تقنيا من قطاع الصناعة التحويلية خلال السنوات الـ 30 الماضية في أمريكا ودول صناعية أخرى، الذي أثر عكسيا في القسم الأقل تقدما، وفي قطاع الزراعة، وزاد من نسبة البطالة لدى فئة من مواطني تلك الدول.
3. انتعاش أو "رواج" قطاع المصارف والتمويل في سويسرا خلال العقد الأخير من القرن الهجري الماضي، ما كان له آثار عكسية في الصادرات السويسرية التقليدية كالساعات.
4. اكتشاف النفط في دول كالسعودية. هذا الاكتشاف وما تبعه من ازدهار كان له آثار سلبية على الصناعات المحلية الحرفية وأخلاقيات العمل، وعلى فرصة تطوير قطاعات إنتاجية.
من القضايا التي تثار حين التفسير، والتي تطرح أسئلة تنبغي الإجابة عنها مثل: كيف يحدث المرض؟ وكيف يؤثر القطاع الرائج في بقية الاقتصاد؟ هناك أكثر من نظرية اقتصادية تحاول الإجابة عن هذه النقاط عبر شرح كيفية جريان التعديل (أو التغير) التوازني العام في الاقتصاد بسبب أوضاع فجائية كبيرة مثل ارتفاع أسعار النفط السابق الإشارة إليه. لكنني سأعرض عرضا غير فني وباختصار واضح لنظرية ربما عدت الأشهر، وهي النظرية أو النموذج التقليدي المعدل الذي يستمد جذوره في تفسير أوضاع الاقتصاد من طرائق التفكير السائدة لدى الاقتصاديين الأوائل إبان ظهور علم الاقتصاد في الغرب بين القرنين الـ 18 والـ 19 الميلاديين.
زيادة إنفاق الحكومة و/أو القطاع الخاص يصحبها زيادة إنفاق استهلاكي، ومن ثم فائض في الطلب على الخدمات والسلع واليد العاملة. وهذا هو الأثر الإنفاقي. وينشأ من فائض الطلب زيادة الأسعار النسبية للسلع والخدمات غير القابلة للتداول في التجارة الدولية (كالعقار وبعض الخدمات)، مقارنة بأسعار السلع القابلة لأن تستورد، وهذا يعني ارتفاع أسعار الصرف الحقيقية. وزيادة الأسعار النسبية لما لا يقبل الاستيراد، يصحبها عادة ارتفاع معدلات الربح فيها، وهذا عامل رئيس في دفع المستثمرين إلى استثمار أموالهم في أنشطتها، أكثر من استثمارها في قطاع إنتاج سلع ممكن استيرادها. والسبب أن أسعار ما يقبل الاستيراد تتأثر بمنافسة صادرات الدول الأخرى.
هناك أثر آخر وهو تحرك الموارد. يظهر إذا اشترك قطاع رائج مع القطاعات الأخرى في عوامل الإنتاج، ومن ثم فرواج ذلك القطاع يحفز عوامل الإنتاج للتحرك تجاهه، كما يدفع أسعارها إلى الارتفاع، وهذا يؤدي في النهاية إلى ارتفاع حقيقي في أسعار الصرف، وإلى انخفاض ربحية وتدهور إنتاج القطاعات الأخرى المنتجة للسلع القابلة لأن تستورد. وجود هذا الأثر ليس قويا في اقتصادنا السعودي، أولا بالنظر إلى أن النفط باعتباره القطاع الرائج قطاع شبه مغلق في عوامل إنتاجه، وثانيا لأن الاقتصاد السعودي أصلا بدائي قبل اكتشاف النفط. ولكن من الممكن فهم التأثير في اقتصاد كالسعودي بطريقة أخرى، وهو أنه كان من الممكن وضع سياسات تجعل تحريك الموارد بطريقة أفضل في تطوير الاقتصاد البدائي.
طبعا دوام الحال من المحال. يأتي وقت ويضعف الرواج ويحل بدلا منه الانكماش. ولكن آثار الرواج السيئة كضعف تنافسية قطاعات الإنتاج غير الرائجة وتدهور أخلاقيات العمل صعب التخلص منها بسهولة.