الشورى .. منهاج للحكم
منذ وقت قريب افتتح خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز الدورة السابعة لمجلس الشورى، ومن تحت قبة المجلس طالب الملك سلمان مجلس الشورى بالمشاركة الفعالة في تنفيذ "رؤية المملكة 2030"، وبذل أقصى الجهود لخدمة الوطن والمواطنين، كما أن خادم الحرمين الشريفين حدد الخطوط العريضة لسياسة المملكة في المجالات المحلية والخارجية كافة.
والواقع أن المملكة العربية السعودية الحديثة لها تاريخ طويل مع الشورى. بدأت المرحلة الأولى في عام 1926، ثم أعادت الحكومة الرشيدة هيكلة مجلس الشورى وأصدرت نظاما جديدا في عام 1996، ولذلك فإن التجربة الشورية في المملكة تجربة ثرية وغنية بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى. وتؤكد التجربة الشورية التي تعيشها المملكة أنه بفضل الشورى أصبحت المملكة من أكثر الأنظمة توازنا واستقرارا في منطقة الشرق الأوسط.
ومع أن كثيرا جدا من البحوث والدراسات تناولت النظريات الديمقراطية الغربية وما يتفرع عنها من نظم الحكم، إلا أن مزايا الشورى الإسلامية لا تزال مجهولة عند كثير من المنظرين ـ خاصة عند أولئك المفكرين القصر من العرب ـ الذين كانوا وما زالوا يفتنون بالديمقراطيات الغربية ويتغنون بفردوسها الموهوم!
وإذا كان البعض يعد المشاركة السياسية، المقابل الأقوى للشورى الإسلامية، فإنه يمكننا القول إن المشاركة السياسية تعتبر من أكثر الموضوعات التي تطرح أمام مواطني المملكة العربية السعودية من خلالها تطبيق مبادئ الشورى الإسلامية الغراء.
وإذا عدنا إلى تجارب المملكة العربية السعودية مع الشورى، فإننا نجد أن المملكة أصدرت في عام 1926 أول نظام دستوري للحكم في تاريخها الحديث، وبذلك فهي ثاني الدول العربية التي أخذت بمبادئ المؤسسات الدستورية العصرية، حيث لم تسبقها إلى ذلك سوى المملكة المصرية (جمهورية مصر العربية) التي أصدرت أول دستور لها في عام 1882، ولبنان الذي أصدر أول دستور له في عام 1926، وهو العام نفسه الذي صدرت فيه (التعليمات الأساسية) التي تضمنت كثيرا من مواد وبنود الدساتير العصرية، التي أصدرتها وتصدرها الدول في كل مكان من العالم.
أكثر من هذا، إن النجاح الذي طال الشورى خلال أكثر من 90 عاما جعل النموذج السعودي نموذجا مثاليا لمعالجة التوترات في المنطقة، حيث استطاع هذا النظام بخصيصته الشورية المتميزة أن يحدث التوازن العادل بين الماضي والحاضر، أو بين الأصالة والمعاصرة، أي أن النظام السعودي على الرغم من أنه يعيش في زمن المعاصرة، إلا أنه لم يسلم نفسه لصراعات العصرنة والتحديث، بل استطاع أن يثقل سير الحركة وأن يوازن بين الأمور ويتأمل جميع الأبعاد، حتى نجح في تكريس الأمن والاستقرار.
وحينما بدأ العالم يودع مرحلة ما بعد الحرب الباردة ويدخل في مرحلة ما يسمى عصر العولمة، وبدأت الأنظمة السياسية في العالم الثالث توسع دائرة المشاركة السياسية وتتجه نحو الديمقراطيات الغربية، لم تفاجأ المملكة بهذه الإطلالات الجديدة، بل تعاملت معها بما لديها من مخزون وتجارب سابقة في مسائل الشورى الإسلامية ومسائل المجالس المفتوحة.
والواقع أن الدين الإسلامي الغني الذي تدين به المملكة حكومة وشعبا والذي تحرص على تطبيق شرائعه الغراء، وفر لنظامها السياسي كل ما تحتاج إليه من أجل بناء نظام شورى يتمتع بكل خصائص النظام الديمقراطي العصري الذي بهر الكثيرين.
إننا إذا استعرضنا تجربتنا الشورية نلاحظ أن أسلوب وطريقة اختيار أعضاء مجلس الشورى تخضع لمعايير موضوعية وفرت للمجلس مجموعة من الكوادر ذات الكفاءات العالية في جميع مجالات الحياة، في السياسة والاقتصاد والثقافة والتعليم والإدارة والرياضة والتنمية عامة.
ولا شك أن توافر هذه القيادات لمجلس الشورى ساعد كثيرا على قيام المجلس بأعماله بدرجة عالية من التوفيق والسداد طوال ما ينوف على الـ 90 عاما.
وأؤكد مرة أخرى أن تطبيق الشورى الإسلامية ليس نظاما جديدا على المملكة، حيث عاشت المملكة تجربة الشورى الإسلامية منذ عام 1926، وحققت من النجاح ما جعلها تعيد وضع الترتيبات والصيغ اللازمة لإعادة تنظيم الشورى، بما يتواءم مع القرن الـ 21 وبما يناسب المتغيرات العصرية الراهنة.
وإزاء التطورات السياسية التي اجتاحت العالم فقد أعادت الحكومة الرشيدة في عام 1996 تنظيم الدولة بإصدار ثلاثة أنظمة جديدة وهي النظام الأساسي للحكم، ونظام مجلس الشورى ونظام المناطق. وكل هذه الأنظمة تتكامل لتبني مرحلة جديدة من الحكم الدستوري الذي يستثمر الشورى كتنظيم وكأداء لدولة عصرية تعيش في مرحلة جديدة من مراحل المشاركة السياسية.
وقد صدر نظام مجلس الشورى الجديد في فترة من فترات التحولات التاريخية الكبيرة، حيث انتهت الشيوعية وانتهت الحرب الباردة، وأخذ العالم يدلف بعدته وعتاده إلى بداية القرن الـ 21. ويدخل في عصر يسمى عصر العولمة أو عصر القرية الكونية وعصر المعلوماتية.
ولا شك أن الدول في كل مرحلة من مراحل تاريخها تحمل صفات قادتها، وفي مواجهة كل مرحلة يتحول اسم القائد العَلَم إلى صفة تاريخية لذلك العصر، ولذلك إذا كان البعض يلقبون عصر الإشراق بعصر النهضة، فإننا نلقب العصر السعودي بعصر الشورى والتنوير والتنمية.