مشهد الاعتماد الأكاديمي .. وآفاق المستقبل

يسعى "الاعتماد الأكاديمي"، كما طرحنا في مقال سابق، إلى تقييم "المؤسسات الأكاديمية" ومنح "الثقة" بها على أساس "معايير محددة" يطلب تحقيقها في هذه المؤسسات. ويعطى هذا الاعتماد عادة لفترة زمنية محددة يحتاج بعدها إلى تجديد، على أساس المعايير ذاتها، أو على أساس معايير أكثر تطورا. وكثيرا ما نجد المؤسسات الأكاديمية سعيدة بحصولها على الاعتماد الأكاديمي من هيئات نالت بدورها الثقة كمؤسسات تحكيم خبيرة ونزيهة. ولاشك أن الحصول على الثقة الأكاديمية من هيئات مرموقة إنجاز يستحق الفخر، لكنه في الوقت ذاته ليس هدفا يتم التوصل إليه والتوقف عنده، بل يجب أن يكون وسيلة لفهم أعمق للحالة الأكاديمية التي تم اعتمادها، يسمح بالانطلاق نحو تطويرها إلى الأفضل. فمعايير الاعتماد عادة وسيلة مرجعية "لمستوى مقبول" من الثقة، أما "مستوى التميز" فيأتي أبعد من ذلك.
ولعله من المناسب القول هنا إن المؤسسات الأكاديمية مؤسسات معرفية متقدمة تسعى إلى خدمة الإنسان أينما كان، وإلى خدمة المجتمع المحلي والإسهام في تنميته. والمعرفة المتقدمة تتجدد باستمرار، وكذلك متطلبات الإنسان والمجتمعات المختلفة، وعلى ذلك فإن الهدف الأكاديمي الذي يفترض أن تسعى المؤسسات الأكاديمية إليه ليس هدفا ثابتا، بل هو هدف متطور، ما أن تصل إليه اليوم إلا وتراه قد بات في موقع أكثر تقدما. ولا بد لهيئات الاعتماد الأكاديمي من أخذ مثل هذا التطور في الاعتبار كي تفعِّل إسهامها في تحسين مستوى هذه المؤسسات، وفي دفعها إلى التطوير المستمر، والاستجابة للمتغيرات.
وإذا نظرنا إلى مشهد الاعتماد الأكاديمي من حولنا، نراه مشهدا متعدد الألوان. فعلى المستوى الدولي نجد هيئات مستقلة تهتم باعتماد المناهج الأكاديمية المتخصصة. ومن أمثلة هذه الهيئات "هيئة اعتماد الهندسة والتقنية ABET" التي شمل اعتمادها عددا من الكليات في جامعات المملكة. ومن أمثلة هذه الهيئات أيضا "هيئة تطوير كليات الأعمال AACSB" التي شمل اعتمادها أخيرا كلية إدارة الأعمال في جامعة الملك سعود.
وعلى مستوى المملكة هناك "الهيئة الوطنية للتقويم والاعتماد الأكاديمي NCAAA". وهي هيئة مستقلة عن وزارة التعليم، تهتم بالعمل على تطوير جودة التعليم العالي في المملكة. ولا يقتصر عملها على "اعتماد البرامج الأكاديمية" في شتى المجالات، بل يشمل أيضا ما يعرف "بالاعتماد المؤسسي" الذي يهتم بالجوانب الرئيسة لعمل المؤسسات الأكاديمية على أساس معايير اعتماد تركز على جودة أدائها وتطورها. وهناك ما يماثل هذه الهيئة في مختلف دول العالم.
ولا تبتعد "منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم: اليونسكو UNESCO" عن مشهد الاعتماد الأكاديمي، لكنها ليست من بين الهيئات التي تمنح هذا الاعتماد، وإنما تسهم في تفعيله بأساليب مختلفة. وقد تحدثنا في مقال سابق عن تقرير "لليونسكو" أعده "المعهد الدولي للتخطيط للتعليم IIEP" التابع لها، حول التعريف بالاعتماد الأكاديمي؛ وسنلقي الضوء فيما يلي على إسهام مهام آخر لها في هذا المجال، حرصا على توسيع زاوية رؤية مشهد الاعتماد الأكاديمي، والاستفادة من المعطيات المفيدة بشأنه.
أصدرت "اليونسكو" عام 2014، من خلال المعهد سابق الذكر، مجموعة من خمسة كتيبات، هي أجزاء لموضوع واحد يختص "بالتوثيق الخارجي للجودة EQA" في التعليم العالي، وهو ما يعبر عن "الاعتماد الأكاديمي". ويركز الموضوع على فكرة التوثيق الخارجي تأكيدا لاستقلالية التوثيق والاعتماد. وقد كان السبب المباشر في إعداد هذه الكتيبات هو إقامة ورشة عمل حول الموضوع لرجال من التعليم العالي في دولتي "جورجيا وأرمينيا" انطلاقا من رغبتهما في تطوير هذا التعليم في بلديهما. وقد باتت هذه الكتيبات متاحة للجميع حول العالم من خلال موقع المعهد.
تعطي مجموعات الكتيبات هذه قاعدة معرفية ضرورية لكل من يعمل في التعليم العالي، غايتها تفعيل دور العاملين في هذا التعليم على تطويره وتعزيز إسهامه في تحسين حياة الإنسان وبناء مجتمعات معرفية ناجحة. وهي في ذلك تبدو وكأنها تتبع ثلاثية "المعرفة، والموقف، والممارسة KAP"، التي تعطي "المعرفة" اللازمة للتأثير في "الموقف" والتوجه نحو التطوير، ومن ثم تفعيل "الممارسة" والتنفيذ على أرض الواقع. ولا شك أن التنفيذ المستند إلى المعرفة والقناعة يكون أكثر نجاحا وفائدة.
يقدم الكتيب الأول، من بين الكتيبات الخمسة طرحا لخيارات "أنظمة توثيق الجودة"، ويلقي في هذا المجال الضوء على التوجهات الحالية للتعليم العالي حول العالم. ويهتم الكتيب الثاني بمسألة "تقييم الجودة"، ويقدم في هذا المجال مثالا يبين فيه معايير التقييم في "سويسرا". ويركز الكتيب الثالث على موضوع "إجراءات التقييم والتوثيق"؛ ثم يوضح الكتيب الرابع كيفية تطوير "هيئة للتوثيق" وتحديد هيكليتها ووظائفها الرئيسة. ويأتي الكتيب الخامس أخيرا ليطرح مسألة "تنظيم وتوثيق جودة المؤسسات الأكاديمية" التي تقدم "تعليما عاليا عابرا للحدود"، لا يلتزم بالضرورة بتشريعات الدولة التي يعمل فيها؛ ويدخل التعليم الإلكتروني المنتشر حول العالم في إطار هذا النوع من التعليم.
ولعله يمكن القول إن النظر إلى مشهد الاعتماد الأكاديمي يجب أن يشمل النظر إلى "ما قبله"، والنظر أيضا إلى "ما بعده". يتضمن النظر إلى ما قبله بناء "الجاهزية المعرفية لتنفيذ الاعتماد" لدى أصحاب العلاقة في المؤسسات الأكاديمية من جهة، ووضع "معايير الاعتماد" التي تمثل المتطلبات الرئيسة لجودة التعليم العالي من جهة أخرى. ويشمل النظر إلى ما بعده، الاستفادة من فهم التقييم الذي يقدمه الاعتماد في التخطيط لمزيد من التطوير و"التميز" وتجاوز المعايير في المستقبل. ولا بد، في الختام، من الإشارة إلى أن هناك مسألة مركزية على مدى مشهد الاعتماد الأكاديمي، ألا وهي مسألة وجود "معايير تهتم بمدى قابلية مخرجات التعليم العالي للتوظيف في مختلف القطاعات" في المجتمع المحلي. فعلى الرغم من ورود هذه المسألة في مختلف معايير الاعتماد إلا أنها تحتاج إلى اهتمام خاص على المستوى الوطني نظرا لدورها في الإسهام في التنمية وتعزيز استدامتها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي