فرنسا: أكثر من انتخاب .. أقل من استفتاء
منذ إعلان الجمهورية الخامسة سنة 1958 على يد الجنرال شارل ديجول؛ مؤسس حزب الاتحاد من أجل الجمهورية، كان التداول على السلطة بين اليمين واليسار هو المتغير الوحيد الذي طبع الحياة السياسية الفرنسية على امتداد أزيد من نصف قرن من الزمن. بلا أي محاولة لفتح أفق جديد خارج هذا الروتين السياسي، أو بتعبير أحدهم بلا أي محاولة "للانخراط في أعمال تاريخية، تؤّمن هامشا مريحا لاشتغال هياكل الدولة ومؤسساتها من دون خوف على اختلال وظائفها، وتعرّض التماسك الاجتماعي للتفكك".
روتين أدركه مبكرا هوبير فيدرين (Hubert Védrine) الدبلوماسي والسياسي الاشتراكي الكبير، وصاحب كتاب "فرنسا والتحدي" 2014 (La France au défi)، عندما نبَّه إلى فرنسا لن تستعيد تماسكها الاجتماعي والذهني إلا من خلال إصلاحات أساسية، ولن تتأتى هذه الإصلاحات المهيكلة عبر أنظمة المساعدات والديون، بل بالشغل والاستحقاق والتربية التي تحتاج إلى تحول عميق وجوهري، وهو ما أعاد التأكيد عليه في كتابه الصادر حديثا "أنقذوا أوروبا" 2016 (Sauver l’Europe).
اعتبر الكثيرون هذا النقاش ترفا سياسيا على هامش الندوات وفي السوق الإعلامية، أو محاولة من بعض الرموز للتميز والتفرد، في مشهد سياسي اختلطت فيه الآراء والمواقف الأيديولوجية حتى أضحى أشبه بقوس قزح. غير أن الزلزال السياسي الذي ضرب فرنسا يوم 23 نسيان (أبريل) المنصرم، كشف بوضوح عن اتساع دائرة عدم الرضا عن النموذج المؤسساتي للجمهورية الخامسة، وتزايد الرغبة في تجريب بدائل أخرى.
استحقاق بطعم خاص
تكتسي المحطة الانتخابية 11 في تاريخ جمهورية ديجول طابعا خاصا على أكثر من صعيد، فعلى المستوى الداخلي اتسمت بالتشويق طيلة أيام الحملة؛ لدرجة بات فيها الشارع الفرنسي مستعدا في أي لحظة للمفاجآت التي لم تتوقف منذ أشهر، بل ازدادت وثيرتها في الأسابيع الأخيرة. ما جعل الفرنسيين أمام حملة انتخابية هيمنت الملفات القضائية على مجرياتها، خصوصا مع المرشح الجمهوري فرانسوا فيون، ومرشحة الجبهة الوطنية الفرنسية ماري لوبين.
كان لهذا الأمر انعكاس واضح على مضمون النقاش السياسي والبرامج التي قدمها المرشحون، حيث غابت المشاريع والأفكار لحساب الشعبوية والخطاب الهوياتي والمعارك "الكلامية الفارغة" من قبيل الترشيح المضاد للنظام والمؤسسات المركزية والقواعد.
كما أرخت ظاهرة التمهيديات؛ أي الانتخابات التمهيدية، التي أجمعت عليها الأحزاب السياسية الفرنسية؛ بيمينها ويسارها هذه المرة، بظلالها على الاستحقاق الانتخابي، حيث هذا الخيار الحزبي الديمقراطي إلى آلة حقيقية لترسيم وتضخيم الخلافات الداخلية، وربما إلى تجميد وظيفة الحزب في العملية الانتخابية.
أما على الصعيد الخارجي فهي تأتي في سياق عالمي قوامه تسونامي المد الشعبوي الذي يكتسح العالم، الذي بلغت مركز النظام الديمقراطي العالمي عندما انتخب دونالد ترمب رئيسا للولايات المتحدة. واختيار البريطانيين التقوقع حول الذات والانحصارية بعد تصويتهم فيما عرف باستفتاء القرن على خيار الطلاق البائن مع الاتحاد الأوروبي.
أزمة أم ثورة
بدأت إرهاصات هذه الأزمة التي تنتشر داخل المؤسسات الحزبية مبكرا، حين قرر الرئيس الحالي فرانسوا هولاند التخلي عن حقه في خوض غمار معركة رئاسية ثانية، في سابقة هي الأولى من نوعها في التاريخ السياسي الفرنسي. واتضحت أعراض هذه الأزمة بشكل جلي حين تم إقصاء أسماء ثقيلة في الساحة السياسية الفرنسية؛ من طينة رئيس الوزراء مانويل فالس، والرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي، وأحد رموز النهج الديجولي ألان جوبي في الانتخابات التمهيدية.
أيقن المشككون في خطاب الأزمة من قوة الزلزال السياسي الذي يهز بلاد الأنوار، بمجرد ما ظهرت نتائج الدور الأول، فأن يحصل شاب قادم من خارج المؤسسة الحزبية مثل إيمانويل ماكرون في الجولة الأولى على ثمانية ملايين ونصف صوت؛ أي 23.75 في المائة من إجمالي الأصوات، وتحصد ماري لوبان 21.53 في المائة من الأصوات، وهي أعلى نسبة أصوات يحصل عليها حزب الجبهة الوطنية الفرنسي في تاريخه، نتائج تبقى غينة عن أي تعليق في دولة تجدرت فيها المؤسسة الحزبية بمفهومها التقليدي العريق.
ستبقى ليلة الأحد ما قبل الماضي خالدة في التاريخ كذكرى لانهيار اليمين المحافظ الذي يمثله حزب "الجمهوريون" وريث المبادئ الديغولية التي تأسست عليها الجمهورية الخامسة. فهذا الحزب الذي كان من المفترض أن ينجح دون مشاكل في استعادة الرئاسة من الحزب الاشتراكي، يجد نفسه الآن على شفير الهاوية، بعد أن أُقصي للمرة الأولى في تاريخه في الدورة الأولى من انتخابات الرئاسة.
كما كانت لحظة لدفن الحزب الاشتراكي الذي حصل مرشحه بونوا هامون نسبة متدنية من الأصوات في وقت يقود فيه البلاد، ولم يسبق للحزب أن تراجع إلى هذه الدرجة. وكان لافتا عشية إعلان النتائج أن الحزب الاشتراكي الفرنسي في لحظة هزيمة أبعدت عنه القيادات قبل القواعد، ما يعني أنه انتهى في نسخته الحالية. إننا ببساطة أمام نهاية النظام الفرنسي القديم الذي قام على الثنائية الحزبية منذ نحو نصف قرن، التي قسّمت فرنسا إلى يمين تقليدي ويسار اشتراكي.
اصطفاف سياسي جديد
تُطوى إذن صفحة احتكار الساحة الانتخابية في البلاد، من طرف الحزبين اليميني المحافظ والاشتراكي، اللذين هيمنا على الحياة السياسية منذ نحو نصف قرن، وترتسم معالم مرحلة جديدة قد تكون مختلفة بشكل جذري عن سابقاتها.
تُمثل المواجهة النهائية يوم الأحد المقبل بين ماكرون ولوبان إعادة ترسيم للانقسام السياسي، بعيدا عن الانقسامات السابقة بين اليمين واليسار، ليصبح الصراع الآن بين الموقف الليبرالي المؤيد للعولمة وبين القومية الداعية لـ"إغلاق الحدود".
إن نهاية "التناوب الفرنسي" بين الحزبين اليميني والاشتراكي سيفسح المجال لسجال أيديولوجي واضح في الدورة الثانية. إذ ستكون هذه الانتخابات بمثابة استفتاء حول بقاء الفرنسيين داخل الاتحاد الأوروبي أو خروجهم منه، ما بين ماكرون الذي يدافع عن بقاء بلاده داخل هذا الاتحاد مقابل لوبان التي جعلت من الخروج من الاتحاد الأوروبي أحد شعارات حملتها. وفي حال فوزها، ستجد أوروبا نفسها أمام حالة جديدة، اسمها هذه المرة "الفريكسيت"، ستنهي شيئا اسمه "الاتحاد الأوروبي" لو تحقّقت.
أيا تكن هوية القاطن الجديد لقصر الإليزي، فالمؤكد أن تحولات هائلة قد طالت السياسة الفرنسية، في مقدمتها التراجع الكبير لأنصار أوروبا السياسية داخل النخب والطبقة السياسية الفرنسية، وهيمنة فكرة العودة إلى "الحدود الوطنية"، ما يعني بالضرورة انزياح النقاش من حقل السياسات الاجتماعية إلى حقل القيم والاختيارات الهوياتية (أوروبا، الهجرة والإسلام)، واختراق التقاطبات الجديدة المنطلقة من هذا الحقل للتموقعات الأيديولوجية التقليدية.