الثقافة والاقتصاد .. وبناء الاتجاهات

في أكثر من مناسبة تحدثت عن الثقافة، ودورها في بناء الاتجاهات، والميول، والرغبات، الإيجابية، والسلبية، ومن ثم توجيه السلوك الذي يقدم عليه الفرد أو الجماعة. وفي حلقة نقاش قدمتها في جامعة الملك سعود قبل بضعة أسابيع أشرت إلى ضرورة الوعي بنوع الثقافة السائدة، إذا ما أردنا تفسير سلوك ما، أو تغييره عند فرد، أو جماعة، وفهم الثقافة يستوجب تحليل مكوناتها، ذات العلاقة بالمشاعر، والأحاسيس، والأفكار، والمعتقدات، ولا يخفى على أحد أن الثقافة تتشكل عبر قنوات التشكيل الاجتماعي، من مدرسة، ووسائل إعلام، وقصص، وروايات، وأساطير، وأشعار، وأمثلة شعبية تتوارثها الأجيال، وتبقى آثارها متجسدة في النفوس.
هذه المقدمة رأيت ضرورتها بعد قراءتي تصريحا مهما لوزير المالية لشبكة هاندل سبلات الألمانية بشأن إجراءات تحسين الوضع الاقتصادي للمملكة، بما يخدم "رؤية المملكة 2030"، ومما ذكره الوزير أننا في المملكة لسنا في حاجة إلى سيارات رولز رويس مطلية بالذهب، ويمكن أن نستغني عنها بسيارات تويوتا، بمواصفات جيدة، يتم تصنيعها في المملكة. هذا التصريح جميل، وأقرأه في دلالته من خلال الثقافة، ولذا علينا أن نسأل لماذا لعقود طويلة استهوتنا سيارات رولز رويس، وغيرها من البضائع ذات الجاذبية الظاهرية، والمكلفة ماديا، في حين أنه بالإمكان الاستغناء عنها ببضائع أخرى تؤدي المهمة، وبأثمان أرخص يمكن إنتاجها محليا، وتوفر وظائف للمواطنين؟!
المدخل الطبيعي لمناقشة الموضوع، ومعرفة أسبابه هو مدخل الثقافة، وأعني بها ثقافة «الفخفخة»، أو كما يسميها البعض ثقافة «الهياط»، التي لا تقتصر على سيارة فخمة يستعرض بها صاحبها في الشوارع، وعند الأسواق، وبالقرب من المطاعم، والمقاهي، بل الأمر وصل إلى حد شراء رقم جوال بـ 400 ألف ريال، ولوحة سيارة بكذا من الآلاف، وساعة بهذه القيمة، وناقة تباع بملايين الريالات، وغيرها من الكماليات التي أصبحت محل تنافس بين البعض من أفراد المجتمع، وتنهك الاقتصاد الوطني، خاصة أن أثمانها تصب في مصلحة اقتصادات دول أخرى تجد لدينا سوقا استهلاكية قوية، تحرك آلات مصانعهم، وتوجد فرصا وظيفية هائلة لديهم.
كيف نحدث التغيير، بما يحقق وضعا طبيعيا في سلوكنا الاستهلاكي الجائر؟ إذا حددنا الأسباب يمكن المعالجة، ولعلي أشير إلى أن من أهم الأسباب القدوة، والنموذج الممكن احتذاؤه، فمتى وجدت القدوة الحسنة في المنزل، وعلى الصعيد الاجتماعي تحقق ما نريد، فمن يجوبون الشوارع بسياراتهم الفارهة يشكلون قدوة لغيرهم ممن يتطلع لتقليدهم، ومجاراتهم، خاصة من فئة الشباب الذين لم تعصرهم الحياة والمواقف، حتى أن هذا الأمر لم يقتصر على داخل مدننا، بل امتد إلى عواصم عالمية، مثل لندن وباريس حيث أصبح أصحاب النعمة منا يشحنون سياراتهم إليهما ليمارسوا سلوك المباهاة، والاستعراض، حتى تأذى منهم أهالي تلك الأوطان، وطالبوا حكوماتهم بطردهم ومنعهم عن هذه الممارسات غير المتحضرة.
من أهم عوامل المعالجة ميدان التربية الفسيح، وبالأخص ربط الناس بدينهم الذي نهى عن الإسراف في كل شيء، حتى الماء، ولو كان المرء على نهر جار يلزمه الاقتصاد فيه، وإدراك قيمته، كما أن النهي عن الإسراف تأكد في مواضع عدة (ولا تغلل يدك إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا). التأسيس التربوي الجيد يجعلنا نضع المال في مكانه الصحيح، ونوظفه بالشكل الذي يخدم مصلحة الفرد، والمجتمع، وهذا الأمر ليس مقتصرا على الأفراد، بل إن جهات رسمية عده تمارس هذا السلوك، ولو أردنا أن نسرد أمثلة لطال بنا المقام. قد يقول قائل إن مناهجنا، وخطبنا في المساجد تتضمن النصوص الدينية، وتحث على عدم الإسراف، وهذا صحيح، إلا أن الأمر يستوجب إيجاد صيغ جديدة في التربية، مع تطبيق الأنظمة الرادعة لكل سلوك مشين، ولعل قرار رفع ضريبة السلع غالية الثمن أحد الإجراءات المناسبة.
إذا علمنا أن الاقتصاد ليس دخلا، وإنفاقا، بل تتوسط بينهما رغبات يتم إيجادها، واستحداثها بفعل محفزات عدة منها الدعاية، والضخ الإعلامي، غير المرشد، والقدوة، وتعاملنا مع هذه الأشياء بأسس علمية، وحكمة تأخذ في الاعتبار الموازنة بين مصالح الوطن العليا، والتحولات العالمية، ومصلحة الأجيال المقبلة سيكون من السهل ترشيد الاستهلاك، وإعادة الوضع لصورته الطبيعية، لتكون النتيجة اقتصادا متينا.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي