«تحدث بلطف واحمل عصا غليظة».. ترمب على خطى روزفلت
منذ أن برزت الولايات المتحدة كقوة عظمى، بعد الحرب العالمية الثانية، وسياستها الخارجية تعتمد على المقولة الشهيرة للرئيس الأمريكي السابق، ثيودور روزفلت (1901 - 1909) "تحدث بلطف، واحمل عصا غليظة". وكان تطبيق تلك المقولة مناسبا خلال عصر التنافس مع الاتحاد السوفياتي السابق، إبان الحرب الباردة. لكن اليوم، يشكك كثير من الأمريكيين في جدوى الوجود العسكري العالمي، اعتقادا منهم بأنه عفى عليه الزمن، وغير ضروري، وخطر مع تكبد القوات العسكرية الأمريكية خسائر فادحة في حربي أفغانستان (2001)، والعراق (2003).
ولكن في اتجاه مغاير لرؤى الأمريكيين التي تشكك في جدوى الانتشار العسكري الأمريكي خارجيا، يدافع إليوت كوهين، أستاذ الدراسات الاستراتيجية في جامعة جونز هوبكنز، المستشار السابق في وزارة الخارجية الأمريكية، في مؤلفه، الذي صدر بداية هذا العام مع تولي رئيس جديد، دونالد ترمب، الحكم في الولايات المتحدة، عن القوة العسكرية الأمريكية، وأهميتها لخدمة الأمن والقيم الأمريكية. الكتاب الذي تستعرضه سارة خليل باحثة في العلوم السياسية ينطلق من حجة أساسية، مفادها أن القوة الصلدة لا تزال ضرورية للسياسة الخارجية الأمريكية، مع الاعتراف بأن الولايات المتحدة ينبغي أن تكون حذرة من استخدام تلك القوة.
أبرز التهديدات
ذكر الكاتب أن العالم مكان خطير وغير آمن، مشيرا إلى بعض الحالات التي دفعت الولايات المتحدة لاستخدام القوة العسكرية أخيرا، وأبرزها حرب العراق (2003)، التي كانت لابد أن تحدث، على حد قوله. وأوضح أن هناك مجموعة من التهديدات العالمية القائمة، التي ربما تدفع الولايات المتحدة إلى استخدام قوتها العسكرية، ومن أبرزها: الصعود الصيني المسلح، والغزو الروسي لشبه جزيرة القرم وشرق أوكرانيا، والتهديدات النووية لكوريا الشمالية وإيران، وانتشار الحركات المتطرفة، كتنظيم "داعش".
ويفترض الكاتب أن الصين تحتل المرتبة الأولى في قائمة التهديدات العالمية، موضحا أن النظام الدولي ربما يعاد تشكيله إذا ما قامت بكين بأي اعتداءات بحرية، أو بداية الصراع مع أحد حلفاء الولايات المتحدة في آسيا. كما أعرب الكاتب عن قلقه من قيام روسيا بأي اعتداء في الوقت الحالي.
ويرى كوهين أنه لمواجهة القوة العسكرية الصينية والروسية، وغيرهما من القوى المناوئة للولايات المتحدة، فإن ثمة ضرورة للتطوير المستمر لتقارير الأجهزة العسكرية الأمريكية، التي يقوم بعضها على افتراضات خاطئة، من وجهة نظره، ومنها: أن روسيا ضعيفة اقتصاديا للغاية لاتخاذ أي هجوم عسكري في الوقت الراهن.
أهمية القوة العسكرية
أكد كوهين ضرورة تعلم القادة الأمريكيين استخدام القوة الصلدة بوسائل جديدة لمواجهة التطورات العالمية المعاصرة، مشيرا إلى أهمية الدور الذي تلعبه القوات العسكرية الأمريكية لدعم الدور الأمريكي عالميا. ولفت إلى أنه إذا تخلت الولايات المتحدة عن مكانتها كقوة عسكرية حكيمة، وفشلت في القيام بدورها كحارس لاستقرار وأمن النظام الدولي، فإنه سيتعرض لمخاطر واسعة النطاق كالاضطرابات، والعنف، والاستبداد على نطاق لم يشهده منذ ثلاثينيات القرن المنصرم.
ويؤكد الكاتب أن الولايات المتحدة لا تزال "الأمة التي لا غنى عنها". وذكر أن هناك احتمالات متزايدة بأن الولايات المتحدة ستستخدم القوة العسكرية بشكل متزايد، وتتفاوت مستويات حدتها، خلال العقود التالية.
ولدعم رؤيته بأهمية القوة العسكرية، دافع الكاتب عن الآراء المؤيدة لزيادة الإنفاق العسكري بمقارنة ميزانية الدفاع الحالية، التي تزيد على 3 من إجمالي الناتج المحلي بالمتوسط التاريخي، في أثناء الحرب الباردة، والتي تراوحت ما بين 6 و10. ويرى أنه خلافا للاعتقاد السائد، تراجعت قدرة الدولة على الوفاء بالديون، ليس بسبب الإنفاق العسكري، وإنما بسبب الزيادة الثابتة على الإنفاق غير الاختياري على ما يسمى "الاستحقاقات" كالرعاية الصحية، والضمان الاجتماعي. وافترض أنه في حال تم تخفيض ميزانية الدفاع إلى النصف، فإن الأوضاع المالية للبلاد لن تتحسن كثيرا.
وحذر كوهين من إحجام الولايات المتحدة عن استخدام القوة الصلبة، لأن ذلك ربما تنجم عنه تكلفة أخلاقية وبشرية كبيرة، في ظل عالم تنتشر فيه الأنظمة غير العقلانية، والجماعات الإرهابية، والعصابات الإلكترونية، والأعداء المنافسون لقيادة الولايات المتحدة للنظام الدولي كالصين وروسيا. ومثل هذه المعطيات تحتم على الولايات المتحدة اللجوء إلى التهديد الحكيم، وممارسة القوة العسكرية في حالات التهديد الاستراتيجي، أو حالات الطوارئ الإنسانية.
وعلى الرغم مما سبق، أوضح الكاتب أن استخدام القوة العسكرية لا يمثل الحل لكل مشكلة، وإنما تلعب القوة الناعمة دورا محوريا أيضا، مشيرا إلى أن أشكال القوة غير العنيفة لها مكانتها في فن حكم أي دولة. وفي هذا السياق، انتقد إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما، لأنها لم تحسن استخدام الأشكال غير العنيفة للقوة خلال الحرب ضد الإرهاب. إذ إنه من خلال القوة الناعمة، يمكن إقناع الدول غير الصديقة للولايات المتحدة بالتصرف بطرق مرغوب فيها.
حيوية الدور الأمريكي
ذكر الكاتب أنه منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية 1945، والولايات المتحدة تلعب دور الضامن الرئيسي للنظام الدولي، حيث صاغت أسس وقواعد العلاقات التجارية والمالية لمرحلة ما بعد الحرب لتحفيز حرية حركة السلع، والخدمات، ورأس المال، والعمالة. كما أنها أسست أيضا النظام السياسي لتعزيز المؤسسات الليبرالية والديمقراطية. ويضيف أنه بذلك تمتع العالم -لأكثر من سبعين عاما- بعصر من الازدهار والحرية لم يسبق له مثيل. فخلال تلك الفترة، لم تحدث صراعات عالمية كبري، بفضل وجود قوة كبري مهيمنة تحافظ على النظام بقوة السلاح.
ينتقد كوهين فكرة "عالم ما بعد أمريكا" التي كانت محور كتاب فريد زكريا في عام 2009، مؤكدا أن الولايات المتحدة لا تزال قوية للغاية في العديد من أبعاد القوة. فمثلا في البعد الديموجرافي، لا تزال أفضل من أي بلد متقدم آخر. ويتسم البعد الاقتصادي للقوة الأمريكية بالديناميكية. أما البعد السياسي، فيتسم بالصمود، على حد قول المؤلف.
ويضيف أن هناك فروقا واضحة بين الولايات المتحدة ومنافسيها في مصادر القوة لمصلحتها، وهو ما جعلها تحافظ على مكانتها كقوة مهيمنة على النظام الدولي، منذ نهاية الحرب الباردة. وانطلاقا مما سبق، تظل ثمة أهمية للدور الأمريكي في ضمان استقرار النظام العالمي، نظرا لإحجام أو عدم قدرة القوى الدولية الأخرى على القيام بذلك.
ولهذا، يدعو كوهين الإدارة الأمريكية الجديدة إلى استخدام القوة العسكرية لمواجهة التحديات الأمنية التي تهدد النظام الدولي، وفي مقدمتها محاربة التنظيمات الإرهابية، التي تتطلب استراتيجية فعالة تركز على شن حملات برية وجوية متواصلة. وفي سياق متصل، يرى أن الأوضاع في ليبيا ربما تكون أكثر استقرارا، إذا أبقت الولايات المتحدة وحلفاؤها على بعض القوات، بعد الإطاحة بمعمر القذافي. ويدعو المؤلف إلى نشر قوات أمريكية في بولندا ودول البلطيق لدرء الأعمال العدائية الروسية. ويرغب أيضا في تعزيز الوجود البحري الأمريكي في منطقة الخليج العربي لإحباط الطموحات الإقليمية الإيرانية.
ولضمان فعالية الاعتماد الأمريكي على القوة العسكرية لمواجهة التحديات العالمية، ذكر الكاتب أنه ينبغي على كل من الرأي العام الأمريكي، والقادة الأمريكيين التكيف نفسيا مع التطورات الجديدة، والتفكير بشكل أكثر مرونة، والتحلي بالصبر حول نتائج الحرب.
ويري كوهين أن جميع مرشحي الانتخابات الرئاسية، الذين يعلنون، في أثناء حملاتهم الانتخابية، أنهم سيقللون من الاعتماد على القوة العسكرية، يغيرون مواقفهم، بعد فوزهم، وتوليهم منصب الرئاسة رسميا، لأنهم يجبرون على مواجهة العالم كما هو، وليس كما يرجون أن يكون. ولا يبدو أن الرئيس ترمب سيقف مكتوف الأيدي أمام تقارير المخابرات التي تصف العالم كما هو.