الحوكمة في مواجهة الفساد

الفساد بشقيه المالي والإداري سبب رئيس من أسباب ضعف أداء وفاعلية المنشآت أيا كان نوعها حكومية أو خاصة أو مؤسسات مجتمع مدني، وعندما يكون الفساد لتحقيق مكاسب مالية وامتيازات أخرى على حساب المنشأة عنصرا من عناصر اتخاذ القرار أيا كان نوعه، فإنه عادة ما يتحول إلى العناصر الأهم والأكثر وزنا في القرار والمعاملات، ويقصي بالتالي عناصر التكلفة والجودة والوقت، الأمر الذي ينتج عنه تعثر أداء الأعمال والمشاريع، واختلاط الأولويات في المشاريع، وذلك لسوء جودة وارتفاع أسعار الاستشاريين، والمقاولين، والموردين، والمواد، وبالمحصلة سوء جودة القرارات التي تتمحور حول تحقيق المنافع الشخصية على حساب مصالح المنشأة ومراجعيها أو مساهميها أو مستفيديها.
وللفسادين المالي والإداري آثار سلبية متعددة وهناك علاقة عكسية ما بين الفساد وكفاءة وفاعلية المنشآت بكل أنواعها فانتشاره يقلل ويؤثر سلبا في فاعلية وكفاءة البنية التحتية والإنتاجية للمنشآت ويتسبب في إيقاف نموها وتطويرها وفي أحيان كثيرة ضمورها وتلاشيها وفشلها في تأدية واجباتها وأعمالها، إضافة إلى أن الفساد يزيد من معدلات الجريمة والفقر والتخلف، ولذلك اهتمت "رؤية 2030" بشكل كبير في معالجة هذه المشاكل من خلال عدة وسائل منها وربما تكون من أهمها "الحوكمة" لكون الحوكمة، إضافة لدورها في مواجهة الفسادين الإداري والمالي بإجراءات وقائية فهي ذات دور كبير في تطوير منظومة العمل الإداري والحفاظ على المال العام وتعزيز تنافسية السعودية ومنشآتها ومواطنيها.
الفساد يسهم بشكل فعال في عرقلة التنمية الاقتصادية والتقدم الحضاري، كما يؤدي لضعف ثقة المواطن بالدولة والحكومة والخطط المعلنة وهذا ينعكس سلبا على مواقفه وسلوكياته، وبالتالي فإن الحوكمة كإحدى أدوات التصدي للفساد لم تعد ترفا أو مسألة اختيارية، خصوصا أن بلادنا تسابق الزمن لتحقيق أهداف الرؤية، وأي إخفاق سيكون له آثار نفسية سلبية، ولكن الحوكمة مفهوم جديد وغير راسخ في ثقافة المنشآت الحكومية والخاصة والمدنية في بلادنا وإن كانت بعض أدوات الحوكمة متوفرة ومن ذلك المتابعة والتدقيق ومؤشرات الأداء والسياسات والإجراءات ولجان المراقبة والمشتريات، وبالتالي علينا أن نفهم الحوكمة، وننشر ثقافتها، ونعزز من مستوى فرق عملها الحكومية، ونعزز من مستوى المنشآت الخاصة التي تقدم خدماتها الاستشارية في هذا المجال، وعلينا أن ندعمها بأجهزة تدقيق ومتابعة مهنية وأنظمة وإجراءات مساءلة فاعلة وسريعة وشفافة.
يبدو لي أن الجهة السباقة في مجال تطبيق الحوكمة هي هيئة السوق المالية التي أصدرت قرارا في 16/5/1438هـ الموافق 13/2/2017 باعتماد لائحة حوكمة الشركات الجديدة، التي جاءت حسب علمي تطويرا للائحة السابقة التي كانت اختيارية وليست إجبارية، واللائحة الجديدة اعتنت بوضع ترتيبات حوكمة فعالة في شركات المساهمة المدرجة في السوق المالية السعودية لضمان وضوح العلاقة بين المساهمين ومجلس إدارة الشركة من جهة، ومجلس الإدارة وفريق الإدارة التنفيذية من جهة أخرى، واهتمت كذلك بحقوق المساهمين في تلك الشركات، كالحق في المعاملة العادلة دون تمييز، والحصول على المعلومات بشفافية بما يمكنهم من ممارسة حقوقهم النظامية على أكمل وجه، إلى جانب اهتمامها بحقوق غيرهم من أصحاب المصالح في هذه الشركات.
كما اعتنت بإيراد أحكام مفصلة عن تشكيل مجالس الإدارة في شركات المساهمة المدرجة ولجانها، واختصاصاتها، ومسؤولياتها، واجتماعاتها، وحقوق أعضائها وواجباتهم، وجاءت تلك الأحكام لتؤكد مبدأ المشاركة الفعالة في اتخاذ القرار داخل مجالس الإدارة؛ فهي تعالج حالات تعارض المصالح بين أعضائها والشركة، وتقرر الصدق والأمانة والعناية والاهتمام مبدأ ومنهجا لهذه المجالس، وكل ذلك بطبيعة الحال يرفع من كفاءة وفاعلية الأداء ويواجه الفساد بأنواعه كافة بإجراءات وقائية واحترازية، الأمر الذي ينعكس إيجابا بالمحصلة على ربحية الشركات.
الأجهزة الحكومية في إطار "رؤية 2030" وكذلك فريق الرؤية بمستوياته كافة اتجه لإعطاء مزيد من الاهتمام لموضوع حوكمة القطاع الحكومي، وبدأنا نسمع عن ورش عمل ودورات هنا وهناك لتأهيل الموظفين على فهم واستيعاب وتطبيق قواعد الحوكمة الصحيحة، وبطبيعة الحال، فإن المسيرة في بداياتها وما زالت تواجه المنتفعين إداريا وماليا، وهناك مقاومة كبيرة من الشلل ذات العلاقات النفعية المتبادلة لأي أسباب كانت، ولكن كما هو معروف طريق الألف ميل يبدأ بخطوة، والخطوة بدأت وعلينا حث السير واختصار الزمن للوصول لأفضل تطبيقات الحوكمة وتحقيق أهدافها.
ولكي نختصر الزمن يجب أن نستفيد من آليات الحوكمة ذات الطابع الدولي مثل "منظمة الشفافية العالمية" التي تمارس ضغوطا هائلة على الحكومات والدول من أجل محاربة الفساد المالي والإداري وتضغط منظمة التجارة العالمية WOT من أجل تحسين النظم المالية والمحاسبية، كذلك يمكن الاستفادة من "لجنة بازل" في قطاع المصارف، التي تمارس ضغطا كبيرا على المصارف لممارسة الحوكمة فيها.
وعلينا أن ندرك أنه بسبب تنوع آليات الحكومة وتعدد مصادرها الداخلية والخارجية، فإن تطبيقها ليس بالأمر الهين، خصوصا أن كثيرا ممن ضعفت ذممهم أذكياء في ابتداع بدائل "عصر الأنظمة"، ولذلك يجب النظر بعين الاعتبار لجميع أصحاب المصالح في أي منشأة كانت لأن كل طرف يؤدي دورا مهما في عملية الحوكمة في محوري الأداء والضبط لتشكل جميعا منظمة تتفاعل في إطار الحوكمة، ومن ذلك التفاعل كمثال فيما بين لجنة التدقيق والمدقق الخارجي، المدقق الداخلي، مجلس الإدارة والإدارة العليا، وبطبيعة الحال فإن لهذا التفاعل دورا مهما وحيويا وحاسما في الحد من حالات الفساد المالي والإداري.
ختاما أتطلع إلى أن تتبنى الأجهزة الحكومية نخبة من الموظفين الواعدين في مجال الحكومة وتأهيلهم، وفق أعلى المعايير وضخهم في إدارات الحوكمة ولجانها، وأتطلع كذلك إلى أن تسهم لجان مبادري الأعمال في تحفيز الشباب السعوديين من أصحاب الخبرات للاستثمار في منشآت استشارية تقدم خدمات الحوكمة، وفق المعايير الدولية لتلبية الطلب النامي على هذا النوع من الخدمات النادرة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي