الاستراتيجية الوطنية للسلامة الغذائية
بقدر سعادتنا بجهود أمانة عنيزة بكشف التمور الملوثة بالمبيدات، ومادة الأثيون التي تسرع في نضج التمور ومصادرة آلاف الأطنان من التمور الملوثة، بقدر ما أصابنا الرعب من الكميات التي دخلت أجسادنا من هذه المواد المسببة للسرطان، والتليف الكبدي، والفشل الكلوي قبل أن تتشدد البلديات في فحص التمور قبل تداولها في الأسواق خصوصا في مهرجانات التمور في مدينتي بريدة وعنيزة في منطقة القصيم.
وقد أصبحنا نعاني القلق عند تناول التمور المحلية ظنا منا أنها لم تخضع للفحص المخبري لمعرفة نسبة الأسمدة الكيماوية والمبيدات الموجودة فيها، بل إن الأمر تعدى ذلك لكل المنتجات الزراعية المحلية التي كنا نسمع عن ارتفاع نسبة الملوثات فيها كالحبحب، والبطيخ، والخضار، والطماطم وغيرها من الثمار، والخضراوات التي تزرع في بلادنا من قبل عمالة زراعية غير مؤهلة، ولا تعرف كيفية استخدام الأسمدة الكيماوية، والمبيدات، ووقت استخدامها، أوالمدة اللازمة لقطفها وطرحها للسوق بعد استخدام الأسمدة والمبيدات.
أذكر أني ذكرت لأحد الأصدقاء كثيرا من فوائد الفواكه والخضار وأثرها الإيجابي في الصحة والنشاط والحد من الإصابة بكثير من الأمراض بل معالجتها، وأذكر أنه قال لي ليست الفواكه والخضار التي في بلادنا، فالمحلية لا تخضع لأي رقابة سابقة أو لاحقة، التي تأتينا من خارج البلاد عادة ما يتم قطفها مبكراً قبل أن يكتمل نضجها وقبل أن تخرج منها المواد الضارة، وغالبا ما تكون معالجة بالمواد الحافظة الضارة، ولذلك رأيته يحجم عن تناولها إلا في حالات نادرة.
أذكر أنني زرت أحد المزارعين في مزرعته ولديه عمالة وافدة تعمل في المزرعة وعندما سألته عن الكميات التي تستخدم من الأسمدة الكيماوية والمبيدات وغيرها من المواد ذات الصلة بالزراعة قال لي إنه يجتهد والعمالة في معرفة الكميات ووقت استخدامها، وأن الإرشاد الزراعي ضعيف جدا ولا يكاد يذكر، وأنه لا توجد لديه وسيلة لمعرفة نسبة المواد الضارة في المزروعات التي ينتجها وفيما إذا كان في نطاق النسب المقبولة أو يفوقها، كما أنه يجهل الأضرار الصحية المترتبة على الأسمدة الكيماوية والمبيدات.
رب ضارة نافعة، فلعلَّ ما كشفته بلدية عنيزة من كميات كبيرة من التمور الملوثة يشكل الحدث الأهم لإبراز هذه المشكلة المتمثلة في الفواكه والخضراوات والتمور الملوثة التي أدت لزيادة وانتشار الأمراض الخطيرة التي قد تفتك بالإنسان على المدى الطويل بالأمراض والعقم والفشل الكلوي والسرطان وما يترتب على هذه الأمراض من مآس اجتماعية واقتصادية وارتفاع كبير في فاتورة الصحة.
ولعل بروز هذه المشكلة في أعلى سلم المشاكل التي نعانيها وتأطيرها التأطير الصحيح، ومن ثم إعداد خطة علاجية مستدامة لحلها من جذورها استباقيا من خلال شروط عمل المزارعين، ومن خلال التوعية والإرشاد، وتزويد المزارعين بأجهزة الفحص والكشف عن المبيدات وغيرها من السموم الضارة، وكذلك من خلال الجولات التفتيشية المفاجئة، ومن ثم الرقابة اللاحقة من خلال عدم السماح لطرح أي منتج زراعي للسوق إلا بعد أن يتم فحصه من قبل البلديات للتأكد من سلامته وصلاحيته للاستهلاك البشري، وربما للاستهلاك الحيواني كذلك لأن معظم الحيوانات سيتم ذبحها لتكون غذاء للبشر في آخر الأمر.
الحقيقة أن بروز مشكلة تلوث الفواكه والخضراوات والتمور يحسب للبلديات وليس لوزارة البيئة والمياه والزراعة فالكشف كان من النوع اللاحق وليس النوع السابق الذي يعد من اختصاص وزارة البيئة والمياه والزراعة التي يبدو أنها لا تنهض بمسؤولياتها المهمة والحيوية بل والخطرة أيضاً حيال سلامة الغذاء المنتج محليا حتى بتنا نأكل السموم ونحن لا نعلم ونعاني الأمراض دون أن نعرف مسبباتها، حتى أصبح مرض السرطان كمرض الزكام من كثرته، وكذلك انتشار التليف الكبدي والفشل الكلوي وأمراض القلب والأوردة والشرايين، وخصوصا أننا كذلك نعاني الخمول والعادات الغذائية السيئة.
البيض الملوث بالمبيدات الحشرية في منطقة الاتحاد الأوروبي يقرع جرس الإنذار هو الآخر حيال منتجات الدواجن في بلادنا وكذلك منتجات اللحوم وخصوصا أن الدواجن والحيوانات تغذى وتحقن بالأدوية والعقاقير وتذبح ويأكلها الإنسان ويكون عرضة للأمراض الناشئة عنها، وبالتالي فإننا أمام مخاطر غذائية تحيط بنا وتتطلب استراتيجية فاعلة وقوية وببرامج وآليات مستدامة للمحافظة على السلامة الغذائية سواء كانت الأغذية محلية الإنتاج أو مستوردة.
تقول "رؤية المملكة 2030" إن النمط الصحي والمتوازن يعد من أهم مقومات جودة الحياة، ولذلك فإنها ستشجع على ممارسة الرياضة وتوفر البيئة الملائمة لذلك، ولكن يجب إدراك أن المفاهيم الجيدة للأنظمة الاقتصادية الصحية تركز على الوقاية والعافية قبل الإنفاق على العلاج، ولاشك أن ضبط جودة الغذاء سبيل أمثل للعافية والوقاية من الأمراض. ومن الواضح أن وزارة البيئة والمياه والزراعة غير قادرة على القيام بالجهود الوقائية وتتطلب دعما من وزارة الشؤون البلدية والقروية ممثلة بالأمانات والبلديات التابعة لها، وكذلك من هيئة الغذاء والدواء، وربما كذلك وزارة التجارة والاستثمار، وكذلك مساندة من مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية، والعمادات العلمية في الجامعات المنتشرة في كل أنحاء المملكة ولديها أجهزة فحص متقدمة يمكن أن تستثمرها بالتزامن مع تأهيل الطلبة ميدانيا، ولذلك من الضروري بناء استراتيجية وطنية للسلامة الغذائية بتعاضد كل هذه الجهات وتطبيقها بإشراف وزارة الاقتصاد والتخطيط ومتابعة مجلس الاقتصاد والتنمية للوصول لحل أمثل لمعالجة تلوث الأغذية من جذورها وبشكل مستدام.
ختاما، حماية الأغذية النباتية والحيوانية والمصنعة داخل البلاد وخارجها من الملوثات والمواد الضارة أمانة كبيرة لكونها ذات أبعاد صحية واقتصادية متعددة، ولذلك يجب التعاطي معها من منظور استراتيجي بحلول فاعلة ومستدامة ومتنامية القوة بمرور الوقت، وكلنا ثقة بقيادتنا الرشيدة أن توجه الجهات المعنية لإعداد وتنفيذ استراتيجية وطنية للسلامة الغذائية من أجل مجتمع صحي وحيوي.