منظومة تطبيق الاستراتيجيات .. ودورها في تحقيق الرؤى
سمعت أن رئيسا لمنشأة حكومية يقول إن التخطيط الاستراتيجي أثبت فشله لدينا، وإن نظرية التخطيط الاستراتيجي لا تنجح في بلادنا لضعف أو غياب مقوماتها، ومن الأفضل أن نباشر العمل في محاور مهام وأهداف إنشاء المنشأة الوارد في قرار التأسيس، ونمضي في التقدم والإنجاز في برامج تطويرية وخدمية محددة في إطار المهام والأهداف وفق ما هو متاح من موازنات وإمكانات بشرية، مع مراعاة السياقات العامة، والمعطيات والظروف المتغيرة، ومن ثم نحلل ونشخص ونقيم ونواصل المسيرة. ويؤكد أن ما حمله على ذلك ما رآه من جهود كبيرة تبذل في إعداد الاستراتيجيات التي تذهب للأدراج، أو تطبق بطريقة خاطئة فتفشل أو تنجح نجاحاً ضعيفاً لا يتفق مع الجهود المبذولة والأموال المنفقة والوقت المستغرق.
وعلى الرغم من أن ما قاله مقنع إلى درجة معينة، إلا أنني لا أتفق معه بتاتا، إذ إن عكس التخطيط العشوائية في العمل وبلا تنظيم (فوضى)، حيث تختلط الأولويات فلا توجه الموارد بشكل سليم وفعّال لتهدر في التصدي لقضايا أو مشكلات ليست مهمة أو ملحة، وسيكون العمل بمبدأ "طقها والحقها"، والتجربة والخطأ، وسنعيد اكتشاف العجلة من جديد للتصدي لكثير من القضايا والمشكلات، الأمر الذي سيضيع علينا فرصة الوقت لتحقيق الإنجازات التراكمية.
وإذا اتفقنا أن التخطيط أمر لا بد منه نأتي للخطوة الثانية، وهي أي التخطيط أنسب لنا؟ هل هو التخطيط التقليدي أم التخطيط الاستراتيجي بمعناه الحقيقي وليس المعنى المبتذل؟ بكل تأكيد السياقات ستحكم أي نوع من أنواع التخطيط نختار، وبما أننا في مرحلة "رؤية 2030" التي تستند للتخطيط الاستراتيجي، فقد أصبح لزاما على كل المنشآت الحكومية، حتى الخاصة ذات الارتباط الكبير بالمنشآت الحكومية، وكذلك مؤسسات المجتمع المدني أن تختار التخطيط الاستراتيجي سبيلا لتحقيق رؤاها في إطار تحقيق "رؤية 2030" وبرامجها التنفيذية الاستراتيجية المقررة.
وإذا كان التخطيط الاستراتيجي ضرورة ملحة لا مفر منها للتواؤم مع المعطيات الحالية والمستقبلية، أصبح لزاما علينا أن نعي مكونات أو عناصر منظومة التخطيط الاستراتيجي، وكيفية عمل هذه المكونات لتتناغم وتتكامل في تحقيق النجاح المنشود من جهة إعداد الاستراتيجية، ومن جهة تطبيقها، ومن جهة أخرى تقييمها وتقويمها بشكل مستمر، كما علينا أن نحدد تحديات وعوائق النجاح في إعداد وتطبيق الخطط الاستراتيجية، وأن نواجهها بإصرار وصبر وشغف، لنصل إلى صياغة أفضل الاستراتيجيات وتطبيقها بأعلى كفاءة ممكنة لتحقيق رؤاها ورسالتها في الأوقات المستهدفة بما هو متاح من موارد بشرية ومالية ومادية وتعاونية.
مرت على مسمعي أكثر من مرة عبارة "منظومة الدفاع الجوي" وتخيلت أنها مجموعة من الطائرات والصواريخ والمضادات الأرضية تعمل مجتمعة لحماية سماء البلاد وأرضها من هجمات العدو الجوية من الطائرات أو الصواريخ، إلا أني اكتشفت أن الأمر لم يكن كذلك، بل إنه أعقد من ذلك بكثير ومكوناته كثيرة، وتتطور عالمياً بشكل كبير، وتعتمد على التقنية بدرجة عالية، وكذلك على الموارد البشرية المؤهلة تأهيلا عاليا للتعامل مع مكون من مكونات هذه المنظومة، بالتنسيق مع المكونات الأخرى لتحقيق السلامة المنشودة من هجمات العدو الجوية، وأن المكونات تشمل أجهزة الرصد، وأجهزة التوجيه، والصواريخ والطائرات والمضادات الأرضية، ونوعية تسليح الطائرات الملائمة لكل ذلك، ونوعية الموارد البشرية المؤهلة، والهيكلة الملائمة، وأنظمة ووسائل الاتصال السرية والسريعة والفاعلة، وثقافة مؤسسية عالية تقوم على الدقة والانضباط والشجاعة والإقدام ورباطة الجأش والسرعة، إلى غير ذلك من الأمور.
تذكرت ذلك وأنا أرى كثيرا من المنشآت تعتقد أن الخطط الاستراتيجية عبارة عن خطة تختلف في منهجيتها وصياغتها عن الخطط التقليدية، وأنه حال استكمال إعدادها تحال للتطبيق، والمتابعة، والتقييم، والتقويم، والصيانة من خلال المنظومة الفكرية والتنظيمية ذاتها (اللوائح والهيكلة والإجراءات)، والبشرية، والتقنية، والمهارية، والثقافية القائمة سابقا دون إعادة تشكيل لكل ذلك بما يتواءم مع فلسفة التخطيط الاستراتيجي الذي يتطلب مكونات منظومة مختلفة تماما.
التخطيط الاستراتيجي يتطلب مكونا جديدا بوعي وفكر جديد لجهة جمع المعلومات وتحليلها وتشخيصها لرسم صورة واضحة ودقيقة ومترابطة العناصر، وبالتالي فإن منهجية جمع المعلومات، ومن ثم تحليلها استراتيجيا ليست كحالها في التخطيط التقليدي، وكذلك مرحلة التفكير الاستراتيجي ومنهجياتها وأسس وقواعد القيام بها مختلفة هي الأخرى، أيضا مرحلة الصياغة في تحديد المسارات الاستراتيجية والبرامج ومشاريعها وآلياتها التي تعمل مجتمعة ومتناغمة لتعزيز قوة الانطلاق في المسارات المحددة للوصول لمحطة الاستراتيجية "الرؤية" في إطار الرسالة، مختلفة هي الأخرى بشكل كبير عن تلك التي في التخطيط التقليدي.
وحال اعتماد الخطة تبدأ مسيرة استكمال منظومة التطبيق والمتابعة والتقويم، وهذه تتطلب تنظيما جديدا يراعي "الرؤية" والأهداف والقيم الحاكمة، فليس من المعقول أن تعتمد الاستراتيجية على الابتكار والإبداع ولا يوجد نظام مكافآت يحفز الموظفين على ذلك، ولا يعقل أن تعتمد الاستراتيجية على المرونة والسرعة في التطوير واتخاذ القرار، والتنظيم يخالف ذلك، والتنظيم بطبيعة الحال يشمل الهياكل والإجراءات ووصف مهام الوحدات واللجان والوظائف، وأنظمة شؤون الموظفين، وأنظمة المكافآت والعقوبات، والأنظمة المالية، والتقنية وإلى غير ذلك.
المنظومة تشتمل أيضا على موارد بشرية ذات فكر ومعارف ومهارات تلائم الفكر والتخطيط الاستراتيجي، وهذا يتطلب تأهيلا عاليا ومستمرا كما هو حال العاملين على منظومة الدفاع الجوي، كما تشتمل على أساليب إدارية تلائم الاستراتيجية والسياقات القائمة بعقليات فكرية قيادية مميزة قادرة على الإقدام والمخاطرة وليست مترددة، وتراهن على الوقت لحل المشكلات، كما تشتمل على ثقافة تنظيمية ملائمة لكل ذلك.
ختاما، للنجاح في إعداد وتنفيذ الاستراتيجيات لا بد لنا أن نعرف مكونات منظومة التخطيط الاستراتيجي ونوفرها كافة دون إهمال لأي منها مهما كانت تكلفته، وإلا ستضيع جهودنا وإمكاناتنا وأوقاتنا في تطبيق فلسفة فكرية لم ندرك أعماقها.