ذاك أبي كما عرفه الناس
في صباح الثامن من شهر رمضان من العام الهجري 1438 هـ، شهر القرآن والغفران والرحمة والإحسان، توفى الله والدي الغالي علينا جميعا المربي الفاضل ورجل الدولة الأستاذ عبدالعزيز بن إبراهيم الهدلق في مدينة الرياض ، والتي عاش فيها قرابة نصف عمره متنقلا بين أحيائها وقد وطد علاقات حميدة مع جيرانه في كل حي يتخذه سكنا له. وقد ترددت في الكتابة عنه رحمه الله فشهادتي مجروحة، والألفاظ مفقودة ، والسيرة عطرة ، ولغتي قاصرة ، وفقده مؤلم، ومالنا إلا الصبر والاحتساب والحمد لله على قضائه، ولانقول إلا مايرضي ربنا إنا لله وإنا إليه راجعون، و هذه دنيا فانية والموت آت كما قال تعالى:(كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ)، والحياة لاتدوم لأحد كما قال الشاعر: حُكمُ المَنِيَّةِ في البَرِيَّةِ جاري، ما هَذِهِ الدُنيا بِدار قَرار، وقال الآخر: غمرات ثم ينجلينا، عنا وينزلن بآخرينا.
عزاؤنا فيه -غفر الله له - امتثاله قول الله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) حتى آخر ساعات حياته، وذكره الحسن وصيته الطيب بين أقربائه وأقرانه وأصدقائه وزملائه في العمل المنتشرين في أنحاء بلادنا الحبيبة، ولاغرو في ذلك فقد كان رحمه الله رجلا ذا مروءة ونخوة، طيب القلب عفيف اللسان، كريم اليد حلو المعشر، حاضر الذهن سريع البديهة، لايمل كلامه ويفقد مجلسه، يصل رحمه ويعتني بأسرته ويتفقد أخواته وأبناء أخيه رحمه الله، يحب بلده ولا يميز في معاملته ، يساعد المحتاج ويحن على الضعيف، ويشفع شفاعة حسنة لمن يطلب منه دون ضرر على الآخرين وبما يحقق المصلحة العامة.
ولد ونشأ رحمه الله في مدينة شقراء حاضرة إقليم الوشم بنجد وموطن قبيلة بني زيد محبا لها ومفتخرا بها، وكان من أوائل من التحقوا بالمعهد العلمي بمحافظة شقراء بعد افتتاحه فأتم تعليمه فيه حتى بعد انتقال أسرته منها للخرمة ومن ثم الطائف لحرصه على إكمال دراسته. وقد بدأ شغفه بالتعليم من ذلك الوقت فأجلّه وأصبح همه لاحقا في حياته وفي تربيته لأبنائه، ومشجعا لهم حتى حصلوا على أعلى الشهادات. انتقل إلى مدينة الرياض في نهاية السبعينيات الهجرية وعاصر بداية نموها حيث حي دخنة ومسجد الشيخ محمد بن إبراهيم وشارعي الثميري والوزير، والتحق بكلية اللغة العربية في الرياض في سنواتها الأولى وتخرج الأول على دفعتها السادسة في العام الجامعي 1382\1383 هـ متفوقا على أقرانه البالغ عددهم 45 خريجا، وقد عشق القراءة والثقافة والأدب واللغة العربية منذ ذلك الحين، وكان يكره أن يلحن أحد فيها أمامه أو في وسائل الإعلام، كما كان خطه جميلا مرتبا. وحين واتته الفرصة لاحقا في حياته الوظيفية للابتعاث وإكمال الدراسة توجه مستعينا بالله إلى الولايات المتحدة الأمريكية (وصولا إلى مدينة نيويورك ،ومن ثمّ إلى ولايتي كانساس وكولارادو) في بداية التسعينيات الهجرية، فدرس اللغة الانجليزية وحصل على درجة الماجستير في التربية من جامعة شمال كلورادو ، وكون صداقات وثيقة استمرت إلى اليوم مع رجال مخلصين ساهموا في خدمة الدولة وتنمية المجتمع من وزراء ومسؤولين ومربين ، وأساتذة جامعات ومديري شركات ، وعاد محملا بسلاح العلم والمعرفة ليخدم وطنه ومجتمعه في بداية انطلاق الخطط التنموية للدولة.
عمل في الدولة بجد وإخلاص وتفان مايربو على الخمسين عاما في قطاعات التعليم والعمل والشؤون الاجتماعية والضمان الاجتماعي وحقوق الإنسان متنقلا بين الطائف والنماص والرياض، وحين دعت الحاجة مكلفا في الملحقيات ولجان التعاقد في المنامة والقاهرة ، ومشاركا في اللقاءات الدورية في جامعة الدول العربية وملتقيات حقوق الإنسان في جنيف، كان فيها مثالا للتعامل الحسن والاحترام والإخلاص وجودة العمل والنزاهة والتعفف والتسهيل على الناس والشفاعة لهم دون إخلال أو تفريط. بدأ حياته الوظيفية في عام 1383 هـ معلما بثانوية ثقيف بمحافظة الطائف ودرّس من أصبح لهم شأن في الدولة لاحقا، وتدرج بعد ذلك في سلك التعليم وعمل في التوجيه في إدارة تعليم الطائف، وقد كان له فضل كبير على معلمي تلك الفترة في محافظة الطائف وقراها المنتشرة فقد كان موجها دون توبيخ، أخا كبيرا للجميع ، معتزا بصداقاته الحميمة التي كونها في تلك الفترة ممن عملوا معه من أهل الطائف أو من سكن فيها واستمرت إلى يومنا هذا فرحم الله الأموات وبارك في عمر الأحياء منهم. ثم انتقل إلى محافظة النماص إبان تأسيس إدارة التعليم هناك وعمل مديرا للتعليم فيها، وعلى قصر مدة تكليفه إلا أنه أحب أهل المنطقة وأحبوه وترك سمعة طيبة لديهم، ثم عاد إلى الرياض واستقر فيها وعمل في وزارة التعليم (المعارف سابقا) في المناهج والتطوير.
وبعد ربع قرن من العمل الدوؤب في مجال التربية والتعليم ،انتقل إلى مجال آخر في وكالة الضمان الاجتماعي في وزارة العمل والشؤون الاجتماعية (آنذاك) ونقل خبرته المتراكمة وتعامله باحترام وتقدير مع جميع الناس دون تمييز أو تحيز إلى هناك، ونظرا لكفاءته الإدارية وشهاداته وخبراته صدر قرار مجلس الوزراء الموقر في عام 1407 هـ بترقيته وتعيينه وكيلا مساعدا لشؤون الضمان الاجتماعي وعمل لمدة خمسة عشر عاما دون كلل أو ملل يخدم فئة الضعفاء والمحتاجين معاصرا لثلاثة وزراء: معالي الأستاذ محمد الفايز، ومعالي الأستاذ مساعد السناني، ومعالي الأستاذ الدكتور علي النملة، حفظهم الله جميعا. كان خلال هذه السنوات الرجل الثاني والساعد الأيمن لسعادة الأستاذ عبدالله البابطين حفظه الله في وكالة الضمان الاجتماعي، وساهم معه في تطويرها وتحديث خدماتها ووصولها إلى المحتاجين في أنحاء بلادنا المتفرقة والشاسعة. وعند بلوغه السن النظامي للتقاعد ونظرا للحاجة الملحة لخدماته وتقديرا لعمله صدر الأمر السامي الكريم في عام 1420 هـ بتمديد خدمته لسنتين إضافيتين ليكمل مسيرته ثم يضع رحاله ويستريح وقد ترك بصمة واضحة في عمله المرتبط بفئة الضعفاء والمعوزين ،وكسب حب الناس ودعاءهم وصداقات متينة امتدت إلى وفاته رحمه الله.
وفي بداية تأسيس هيئة حقوق الإنسان استجاب لنداء العمل وخدمة الوطن مرة أخرى، فعمل مع زميله سعادة الأستاذ عبدالعزيز العجلان حفظه الله في الهيئة، وشارك بخبرته الإدارية المتراكمة مع زملائه في نهوض الهيئة تحت توجيه وقيادة معالي الشيخ تركي بن خالد السديري وعمل أمينا لمجلس هيئة حقوق الإنسان لفترة حتى صدر الأمر السامي الكريم بتعيينه عضوا في مجلس هيئة حقوق الإنسان لدورتين متتاليتين تحت رئاسة معالي الشيخ تركي السديري ثم معالي الدكتور بندر بن محمد العيبان، عمل فيها بكل جد وإخلاص مع زملائه أعضاء المجلس لتحقيق أهداف الهيئة وحماية حقوق الإنسان. وكتب الله أن يتوفاه قبل حضوره لحفل التكريم الذي أقامته هيئة حقوق الإنسان لجهوده وزملائه في الهيئة، وقد تكرم معالي الدكتور بندر العيبان - الكريم ابن الأسرة الكريمة - مشكورا مأجورا بدعوة أبنائه لحضور حفل التكريم وتسلم درع تكريمه، وذكر من خصال الفقيد واجتهاده في عمله مايغني عن مقالتي فله خالص الشكر والامتنان.
وهذا غيض من فيض، وفي الجعبة الكثير من الكلام، وله مواقف مشهودة وحوادث مذكورة وسجايا محمودة يعرفها من زامله وعاشره كما قال الشاعر: مَن يَفعَلِ الخَيرَ لا يَعدَم جَوازِيَهُ, لا يَذهَبُ العُرفُ بَينَ اللَهِ وَالناسِ ، ولولا ضيق المساحة لسردت بعضها ، وهذا جهد المقل مني فاللهم أكرم نزله وأرفع درجته واجمعنا به في جنات النعيم. وقد سبقني - وانا أحرر هذه المقالة - بالكتابة عنه الفضلاء الأستاذ منصور الغفيلي والأستاذ علي خضران القرني في جريدة الجزيرة في شهر رمضان وهذا طبع الأوفياء. وقد وجدت بين أوراقه رحمه الله قصيدة طويلة معبرة عنه لاأعلم ناظمها وقد جاء عنه في جزء منها:
عبدالعزيز الهدلق .... نجم الليالي المشرق
حاز البيان فقوله .... فصل متى ماينطق
رجل السماحة والتقى .... وله الحديث الشيق
تخبوا النجوم ونجمنا .... لما بدا يتألق
فهو القريب تواضعا .... فإذا دنوت يحلق
والصدق الف لسانه .... وبغيره لاينطق
وختاما من لايشكر الناس لايشكر الله، فقد واسنا وجبر مصابنا خلق كثير ممن شارك في الصلاة عليه ودفنه والدعاء له تقربا إلى الله ثم وفاء له، أو تواصل معنا مشكورا بالترحم عليه والدعاء له وذكره بالخير من داخل المملكة وخارجها فاللهم اكتب أجرهم واجبر مصابنا ومصابهم واحفظ لهم أحبابهم، وليس مستغربا وفاؤهم ورثاؤهم للفقيد: فللـــــــه درُّ النائبـــــــات فإنهــــــــا صـدأ اللِّئـام وصَقيـل الأحـرار. ونخص بالشكر أصحاب السمو الأمراء وفضيلة العلماء والمشايخ ، وأصحاب المعالي والسعادة من وزراء ومسؤولين وسفراء، والوجهاء وأعضاء مجلس الشورى وأعضاء مجلس هيئة حقوق الإنسان، ومنسوبي وزارة التعليم ووزارة العمل والتنمية الاجتماعية وهيئة حقوق الإنسان وجامعة الملك سعود والمركز الوطني للقياس والمؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني ومؤسسة موهبة. كما نتقدم بالشكر الجزيل لوجهاء وأبناء الأسر الكريمة التي تواصلت معنا من داخل المملكة وخارجها.
ووقفة أخيرة مع أصدقاء الفقيد الخلصاء (في الرياض والطائف وشقراء) فقد سطروا صحف الوفاء ، ورسموا منظومة الصحبة والإخاء، وشعروا بما شعرنا به وكانوا قريبين منا وتألموا لفقده، ولعلمي بصدق محبتهم له وإخلاصهم وسرورهم بتسطيري بعضا من سيرته وتعففهم عن الذكر والمديح، ولولا ذلك لذكرتهم فردا فردا، فلهم منا أحسن الدعاء بأن يحفظهم رب العباد ويبارك في أعمارهم، ونسأل الله أن يرزقنا بره بعد مماته وكثرة الدعاء له رحمه الله وغفر له، وأن يعيننا على إكرام أصدقائه وصلة رحمه، والحمد لله رب العالمين.