هل تشعل الحرب التجارية أزمة اقتصادية عالمية؟
منذ فجر الحضارة الإنسانية، يترافق التقدم وتحسن مستوى المعيشة مع زيادة مستوى التخصص. فقد أتاحت الزراعة على نطاق واسع المجال أمام أفراد المجتمع القيام بأعمال مختلفة بدلا من التركيز على جمع الطعام. ومتى ما تفرغ الأفراد لعمل ما، زاد إتقانهم للحرفة، وبالتالي ينعكس هذا الإتقان على جودة المنتجات. هذه هي أيضا قصة العولمة. فمع انفتاح الدول على التجارة العالمية، وارتفاع مستوى الترابط، تخصص كل اقتصاد فيما يجيده بشكل أكبر. نتج عن ذلك بعض عوامل الخلل في هجرة الوظائف من الدول المرتفعة التكلفة إلى الاقتصادات النامية، ولكن في المحصلة النهائية، كان الاعتماد على التصنيع في الاقتصادات النامية هو ما مكن الدول المتقدمة من الاستمرار في رفع مستويات الاستهلاك، على رغم النمو المحدود في ناتج الاقتصاد العالمي. توجت مرحلة العولمة بالوصول إلى إيجاد اتحادات اقتصادية واسعة مثل الاتحاد الأوروبي، وشراكات اقتصادية عابرة للقارات، مثل طريق الحرير الجديد. ولكن النزعة الحمائية الصاعدة تعمل على تقويض منجزات هذه المرحلة.
كل العوامل السابق ذكرها من الترابط والتجارة والتوظيف الأمثل للموارد يقع تحت طائلة التهديد؛ بسبب الحرب التجارية التي أطلقتها الولايات المتحدة. لا يمكن التكهن بنتائج هذه الحرب على التجارة بين بقية دول العالم، فالصين تمضي قدما في تعزيز اقتصادات آسيا الوسطى وإفريقيا؛ لإيجاد طلب جديد على منتجاتها مع تنمية اقتصادية شاملة. وبريطانيا بدأت في الحديث عن منطقة تجارة حرة مع الاتحاد الأوروبي لتأخذ مسار الـ"البريكست" الخفيف. ولكن تظل الولايات المتحدة الشريك التجاري الأهم للصين، والمستهلك الأول لمنتجاتها. ولذلك فإن الحرب التجارية ستؤثر حتما في النمو الاقتصادي العالمي، ومن ثم إجمالي الطلب في كل دول العالم.
خطورة التراجع عن مكتسبات العولمة وحرية التجارة تكمن في تراجع الطلب، وتقييد حركة رؤوس الأموال. فعلى سبيل المثال، إلى جانب تراجع إجمالي الحركة الاقتصادية بسبب الركود الذي سينتج عن تراجع التجارة البينية، فإن صناعات بعينها ستصبح عالية التكلفة وغير مجدية، ما قد يقوض الصناعة برمتها. الحديد والصلب أحد أهم المكونات التي تعتمد عليها صناعة النفط والغاز الصخري في الولايات المتحدة، فإن انخفضت الواردات وارتفعت التكاليف، سيؤثر ذلك حتما في الإنتاج الأمريكي من النفط والغاز. هذه إحدى البؤر التي قد تشعل أزمة تضخم عالمية؛ بسبب شح المعروض وتراجع الطلب. وبالطبع فإن أثر ذلك لن يكون محصورا على أمريكا لطبيعة السلعة العالمية. قد لا تندلع الأزمة في هذه الصناعة تحديدا، إلا أن أي صناعة أخرى معرضة بالمثل لذلك، ويمكنها بسبب مستوى الترابط العالمي أن تهدد الاستقرار الاقتصادي كما حصل في أزمة الائتمان نهاية العقد الماضي.
هذا الجو المفعم بالمخاطر يدفع الولايات المتحدة إلى الاستمرار في الحرب التجارية وتصعيدها، فهي تعرف تماما أنها الملاذ الآمن في أوقات الخوف، معتمدة على كونها الاقتصاد الأقوى، ولكون الدولار عملة الاحتياطيات والتجارة العالمية، وبذلك يمكن أن تكون أمريكا أقل الخاسرين.