الاقتصاد العالمي .. الأمر ليس ورديا
تجاوزت اقتصادات كثيرة في العالم المشكلات والمصاعب التي خلفتها الأزمة الاقتصادية العالمية. صحيح أن الفترة طالت لتصل إلى عشر سنوات، لكن الصحيح أيضا أن الخروج من تبعات أكبر أزمة اقتصادية حدثت في قرن من الزمن، أعطى دفعات قوية للنمو في هذا البلد أو ذاك، وقلل بعض الشيء من مخاطر الركود أو الانكماش على الأقل في السنوات المتبقية من العقد الجاري، ومن هنا تنطلق التوقعات التي وردت في تقرير "آفاق الاقتصاد العالمي" الصادر أخيرا، حيث تتحدث عن بقاء النمو العالمي ثابتا عند معدل العام الماضي البالغ 3.7 في المائة خلال الفترة 2018-2019. وهذا المعدل تجاوز -كما هو واضح- مستوياته في السنوات بين 2012 و2016، الأمر الذي كرس حقيقة انحسار المخاوف الانكماشية.
غير أن الأمر ليس ورديا بالكامل في الفترة المقبلة، إذ إن المؤسسات الدولية تحذر من الآثار السلبية التي تتركها المعارك التجارية الراهنة على الاقتصاد العالمي، وإن كانت هذه المعارك لم تصل إلى حالة الحرب التجارية العالمية، فالخلافات التجارية دبت حتى بين الحلفاء التاريخيين، ناهيك عن الخلاف الأخطر وهو ذاك الذي بين الولايات المتحدة والصين، فكلا الطرفين ليس لديهما خطط واضحة لتخفيف المعارك بينهما، بل العكس هو الصحيح، ورغم أن واشنطن استطاعت توقيع اتفاقيتين مع كل من كندا والمكسيك بدلا من اتفاقية "نافتا" إلا أن التوتر ما زال قائما على ساحة الدول الغربية، خصوصا بين ألمانيا والولايات المتحدة، وهذه الأخيرة لا توفر مناسبة إلا وصبت جام غضبها على برلين لأسباب تجارية.
المهم أن النمو الثابت المتوقع معرض للتراجع في العام المقبل إذا ما استفحلت المواجهات الاقتصادية المشار إليها، أضف إلى ذلك إمكانية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي دون اتفاق، ما سيزيد الوضع الاقتصادي العالمي تعقيدا. لكن المثير في الأمر، أن النمو الراهن للاقتصاد العالمي يبقى أقل توازنا من المأمول. وتتفق جهات متعددة حول هذه النقطة، ما يزيد الوضع توترا في الفترة المقبلة. والملاحظ -وفق التقرير العالمي المشار إليه- أن النمو في كثير من الاقتصادات الرئيسة يرتكز أساسا إلى سياسات ليست قابلة للاستمرار على المدى الطويل، وهذا الجانب يضاف أيضا للجوانب السلبية الراهنة على جبهة النمو، فالمطلوب دائما في مثل هذه الأوضاع أن تكون الاستدامة في السياسات الاقتصادية أكثر قوة وحضورا على الساحة، ومع كل هذه الجوانب، لا تزال هناك مساحات واسعة أمام صناع القرار للعمل على بناء سياسات أكثر صلابة وتتوافق مع المتطلبات المرحلية، لكن شرط ألا تكون المعارك التجارية حاضرة على الساحة، علما أنه لا توجد مؤشرات على زوال هذه المعارك في المستقبل المنظور. سيكون هناك تطور إيجابي حقاً إذا ما حافظ النمو الاقتصادي العالمي على مستوياته الثابتة المشار إليها، فلا أحد يطمح بنمو مرتفع في الأعوام القليلة المقبلة لأسباب عديدة، في مقدمتها تلك المعارك التجارية، وعدم استدامة السياسات الاقتصادية لكثير من البلدان المتقدمة. فهذه الأخيرة شهدت التوقعات الخاصة بنمو اقتصاداتها انخفاضا في الأشهر الستة الماضية، وهي في النهاية تؤثر بصورة أو بأخرى في أداء الاقتصاد العالمي.
ومن هنا، يمكن القول إن بقاء النمو ضمن التوقعات الأخيرة سيكون بحد ذاته بمنزلة خطوة إلى الأمام، لكن الخطوة الأهم أن تكون هناك اتفاقات حقيقية تقف في طريق اتساع رقعة المعارك التجارية الجارية على الساحة في الوقت الراهن.