دور البنوك المركزية في المشهد النقدي الإلكتروني «2 من 2»
إن هويات المستخدمين تظل مجهولة للأطراف الأخرى أو للحكومات، ما لم يتطلب القانون خلاف ذلك. فحين أشتري البيتزا والبيرة، لن يعرف هويتي السوبرماركت ولا البنك الذي أتعامل معه ولا المتسوقون. وقد لا تعرفها الدولة أيضا، على الأقل في الحالات المعتادة.
لكن ضوابط مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب يمكن أن تعمل في الخلفية، وإذا ظهر اشتباه في المعاملة، يمكن كشف النقاب عن الهوية وإجراء التحقيقات المطلوبة.
ومقارنة باستخدام النقد، سيكون هذا الترتيب ملائما للمستخدمين، وسيئا للمجرمين، وأفضل للدولة. ولا شك أن هناك تحديات ستظل باقية، لكن ما أهدف إليه الآن هو تشجيع الاستكشاف والبحث. والخطر الثاني يتعلق بالاستقرار المالي. فالعملات الرقمية يمكن أن تفاقم الضغوط على الودائع المصرفية التي تحدثنا عنها في البداية.
وإذا كانت العملات الرقمية تشبه ودائع المصارف التجارية بالقدر الكافي؛ لأنها آمنة جدا، ويمكن حيازتها بلا حدود، وتتيح أداء المدفوعات بأي قيمة، وربما حتى تدر فائدة، فما الحاجة إلى حساب مصرفي أصلا؟
لكن المصارف ليست متفرجا سلبيا؛ فبإمكانها المنافسة بأسعار فائدة أعلى وخدمات أفضل.
فماذا عن خطر نوبات السحب الجماعي للودائع المصرفية؟ الخطر قائم. لكن تذكروا أن الناس يسارعون إلى السحب حين يعتقدون أن المسحوبات النقدية تتاح بأسبقية الطلب، فالطيور المبكرة تفوز بغذائها من الدود. أما العملة الرقمية، فلأنها يمكن أن توزع بسهولة أكبر بكثير من النقد، فإن ذلك يمكن أن يطمئن حتى الشخص الذي يترك مستلقيا على أريكته. وإضافة إلى ذلك، إذا كان المودعون يسارعون إلى اللجوء إلى الأصول الأجنبية، فسيتجنبون العملة الرقمية أيضا. وفي كثير من البلدان، هناك بالفعل أصول سائلة وآمنة يمكن الهروب إليها، فهناك صناديق الاستثمار المشترك، التي لا تتعامل إلا في السندات الحكومية. ومن ثم، فإن الحكم النهائي لم يصدر بعد حول ما إذا كانت العملات الرقمية ستُحدِث خللا في الاستقرار المالي أم لا. ومن الغريب أن العملة الرقمية قد تخنق الابتكار إذا حظيت برواج شديد. فأين دورك إذا قدم البنك المركزي حلا يتيح خدمات متكاملة، من المحفظة الرقمية إلى العملة الرمزية إلى خدمات التسوية النهائية؟
وماذا لو أن البنوك المركزية قامت، بدلا من ذلك، بالدخول في شراكة مع القطاع الخاص - المصارف وغيرها من المؤسسات المالية - وقالت: لتكونوا أنتم الواجهة مع العملاء، أنتم تخزنون ثرواتهم، وتفرضون الفائدة، وتقدمون المشورة والقروض، لكننا نتولى الأمر عندما يحين وقت إجراء المعاملات؟
ويمكن أن تتخذ هذه الشراكة عدة أشكال. فالمصارف والشركات المالية الأخرى، ومنها المشروعات البادئة، يمكن أن تدير العملة الرقمية، على غرار المصارف التي تتولى حاليا توزيع النقد.
ويمكن أيضا أن يحتفظ الأفراد بودائع منتظمة لدى الشركات المالية، لكن التسوية النهائية للمعاملات تتم بالعملة الرقمية بين الشركات، وهو ما يشبه الوضع الراهن، لكنه يتم في أقل من ثانية، وكله تقريبا بالمجان وفي أي وقت.
والميزة واضحة. فمدفوعاتك تتم فورا وعلى نحو آمن ورخيص، وربما تظل هوية المستخدم شبه محجوبة، مثلما كنت تريد. وتحتفظ البنوك المركزية بدور أكيد في نظم الدفع. وإضافة إلى ذلك، يمكنها إتاحة مجال للمنافسة العادلة، وساحة للابتكار. وفي الوقت نفسه، ستتحقق للبنك الذي تتعامل معه، أو زملائك من رواد الأعمال، تجربة إيجابية مع نظام سهل الاستخدام، يقوم على أحدث ما وصلت إليه التكنولوجيا.
وبعبارة أخرى؛ البنك المركزي يركز على ميزته النسبية، وهي التسوية النهائية، والمؤسسات المالية والمشروعات البادئة حرة في التركيز على ما تراه الأفضل لها، واجهة العملاء والابتكار، وتلك هي الشراكة بين القطاعين العام والخاص في أفضل صورها.
وتستند هذه الأسباب إلى المتطلبات الجديدة والمتطورة للنقود، وكذلك الأهداف الأساسية للسياسة العامة. ورسالتي في هذا الخصوص هي أن دواعي استخدام العملة الرقمية قد لا تكون عالمية، لكن علينا التعمق في تقصي الأمر، وبجدية ودقة وابتكار.
والأهم من ذلك أن هذه الدواعي تتعلق بالتغيير ــ الانفتاح للتغيير، اعتناق التغيير، صياغة شكل التغيير.
كما ستتغير التكنولوجيا، يجب أن نتغير نحن أيضا؛ لئلا نظل الورقة الأخيرة على غصن ميت، بعد أن يقرر الآخرون التحليق مع الريح.
وفي عالم التكنولوجيا المالية، نحتاج إلى تسخير التغيير لمتطلبات العدالة والأمان والكفاءة والديناميكية. كان هذا هو هدف جدول أعمال بالي للتكنولوجيا المالية، الذي أطلقه الصندوق مع البنك الدولي في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي.
فحين تشتد رياح التغيير، ما الذي سنسترشد به في رحلتنا؟ لقد اختار الربابنة اتباع نجمة الشمال وهم يمخرون بسفنهم عباب الأمواج في مضيق سنغافورة.