تعددية الأطراف الجديدة والحوكمة الرشيدة
أكون مبالغة في التفاؤل، ويجب أن أكون متفائلة، فأنا أفكر في العالم الذي سيرثه أحفادي، لكن هذا يضعنا أمام خيار جوهري، أن نقف مكتوفي الأيدي ونشاهد تأجج الخصومة والسخط حتى يتحولا إلى صراع، أو أن نمضي قدما ونعيد تصور الطريقة التي تعمل بها البلدان معا وتبني السلم والرخاء.
ولكن، ما معنى ذلك في الواقع العملي؟ معناه أن تعمل البلدان معا لجعل الناس محورا لكل ما نبذله من جهود - بالتركيز على النتائج الحقيقية التي تؤدي إلى تحسين جودة الحياة، معناه أيضا زيادة الشفافية والمساءلة على مستوى الحكومات والمؤسسات - وهو ما يشمل زيادة الاستماع إلى مختلف الأصوات، معناه ضمان استفادة الكثرة من الثمار الاقتصادية للعولمة، وليس فقط القلة.
وقد أسميتُ هذا "تعددية الأطراف الجديدة". ويمكن أن تسموه حسن إدراك الأمور.
ودعوني أكون واضحة هنا، فالتعاون الدولي الجيد لا يمكن أن يكون بديلا للسياسة المحلية الجيدة. ولا شك أن البلدان المنفردة عليها مسؤولية في تحقيق رفاهية مواطنيها. والواقع أن السياسات المحلية القوية يمكن أن تشكل قاعدة للتعاون الدولي الفعال. وفي عالمنا الحديث، هناك بعض القضايا التي لا يمكن معالجتها إلا بالتعاون الدولي.
وفي هذا السياق، أود مناقشة أربع قضايا. وفي كل منها، يحتاج النجاح إلى الإبداع والرؤية من بلداننا الأعضاء الـ189، ومنها العضو المؤسس - الولايات المتحدة.
ويمكن أن نبدأ بالتجارة، فقد حضرت قمة مجموعة العشرين الأخيرة في الأرجنتين؛ حيث كانت التجارة، بالطبع، نقطة محورية في نقاشاتنا.
أولا التجارة، وأنا أقول منذ فترة إننا في حاجة إلى "إصلاح النظام". وقد بدأت ألح على البلدان الأعضاء في الآونة الأخيرة لكي "تزيل فتيل التصعيد"، الذي يشعل التوترات التجارية. وكان من المشجع أن أرى تقدما في هذا الصدد أثناء قمة مجموعة العشرين. وعلينا الآن أن نواصل نزع فتيل التصعيد، مع تحسين النظام التجاري للمستقبل. وسيتضمن هذا إلغاء الدعم التشويهي، أيا كان شكله أو لونه. وسيعني أيضا حماية حقوق الملكية الفكرية دون خنق الابتكار، والتخلص من فرص تحقيق الريع. ويمكن أن يؤدي اعتماد اتفاقيات تجارية جديدة إلى إطلاق إمكانات التجارة الإلكترونية والتجارة في الخدمات. وينبغي أن أؤكد أن اعتماد سياسات اقتصادية كلية أفضل من شأنه الحد من الاختلالات الخارجية - بما في ذلك الفوائض والعجوزات في الميزان التجاري - التي شكلت خلفية لاحتدام التوترات التجارية. وكل هذه الأمور تكتسب أهمية بالغة؛ لأن التجارة ترفع الإنتاجية، وتعجل وتيرة الابتكار.
وقضيتي الثانية التي نحتاج فيها إلى مزيد من التعاون هي الضرائب الدولية. فالشركات تتمتع الآن بوجود عالمي، لكن الحكومات لم تتوصل بعد إلى حل عالمي للقضايا الضريبية. وهناك الآن كم هائل من الدولارات الضريبية المتروكة؛ بسبب السعي وراء الأمثلية الضريبية والممارسات الإبداعية السلبية، ومن ثم تحتاج البلدان إلى العمل في تعاون وثيق لجمع مستحقاتها، وتجنب الدخول في سباق يصل بالضرائب إلى القاع. ويمكنها سد الثغرات التي تؤدي إلى ما نسميه "تآكل القواعد الضريبية ونقل الأرباح". والصندوق يعمل بالتعاون مع شركائه حتى يمكن لبلداننا الأعضاء أن تتبادل الممارسات الفضلى، وتخرج بقواعد تنظيمية للاقتصاد الرقمي، الذي لا نجد فيه للشركات أي قاعدة عمليات ثابتة. وما الحاجة إلى هذا الدخل؟ لأن البلدان ينبغي أن تستثمر في مستقبلها. ويمكن أن يتضافر التمويلان العام والخاص لتقوية البنية التحتية، وتحسين التعليم، وإعدادنا جميعا للتكيف مع التحول التكنولوجي الذي يطرق الأبواب.
وقضيتي الثالثة تتعلق بالمناخ الذي نعيش فيه. فمن الأعاصير العاتية في الكاريبي إلى حرائق الغابات في كاليفورنيا، يزداد الشعور بالآثار الخطيرة لتغير المناخ كل يوم. وتشير دراسة حديثة أصدرتها الحكومة الأمريكية، إلى أن الأثر الاقتصادي الناجم عن تغير المناخ، يمكن أن يخفض إجمالي الناتج المحلي الأمريكي إلى حد كبير في العقود المقبلة. وقد كان الاتفاق التعاوني الذي تم التوصل إليه في باريس في 2015 هو أفضل عُدة من الأدوات التي يمكننا استخدامها للبدء في مواجهة هذا التحدي الذي يهدد كوكب الأرض، والانتقال إلى اقتصاد خال من الكربون. كما أنه يعبر عن الأفكار التي أبرزتها وهي الإبداع والرؤية الاستشرافية والالتزام العالمي بالمصلحة المشتركة التي تخدم المصلحة الذاتية. وهذه مسألة يرتهن بها بقاء أبنائنا وأحفادنا.
وكل من هذه القضايا - التجارة والضرائب والمناخ - يستحق محاضرة كاملة من محاضرات كيسنجر، لكن هناك قضية أعتقد أنها تشكل حجر الأساس الذي يقوم عليه التقدم في كل مكان تقريبا. ولهذا فإن المجال الرابع والأخير الذي أود مناقشته معكم هو الحوكمة الرشيدة غير المكبلة بقيود الفساد. والحقيقة البسيطة هي أنه من دون الثقة بمؤسساتنا، لن يتسنى تحقيق ما نسعى إليه.