الإدارة الرشيدة للمالية العامة في العالم العربي «2 من 2»
ليس من شأن معالجة المخاطر التي تواجه المالية العامة أن تعزز مصداقية الميزانية وشفافيتها فقط، بل أن تساعد على كبح الفساد أيضا. كذلك فإن مصداقية الميزانية تدعو لتحسين إدارة المخاطر، مع وضع ميزانية أكثر شمولا تقوم على تنبؤات واقعية. والنبأ السار هنا هو أن عديدا من البلدان بدأت بالفعل تعزيز أطر ماليتها العامة، وكثير منها يقوم بهذه المهمة بمساعدة الصندوق. وإليكم بعض الأمثلة:
- قامت السعودية والكويت والإمارات والسودان وقطر ولبنان بإنشاء وحدات للمالية العامة الكلية، وهي خطوة أولى مفيدة في تعزيز إطار المالية العامة.
- اعتمدت الجزائر أخيرا قانونا جديدا للميزانية يركز بقوة على المدى المتوسط، كما استحدثت البحرين برنامجا للمالية العامة يهدف إلى تحقيق التوازن على المدى المتوسط.
- تحقق موريتانيا والمغرب والأردن ولبنان تقدما كبيرا في التخطيط للاستثمارات العامة وتنفيذها على المدى المتوسط.
- تنشر مصر حاليا بيانا بالمخاطر على المالية العامة مرفقا بميزانيتها، وتصدر أثناء السنة تقييما داخليا للمخاطر التي تتعرض لها الميزانية. وتعمل الإمارات أيضا على إطلاق مشروع لإدارة مخاطر المالية العامة - بمساعدة الصندوق - وستصدر هذا العام اختبارها الأول لقياس تحمل الضغوط على المالية العامة.
وهناك مجال لمزيد من التحسينات. فربما تستطيع البلدان المصدرة للنفط أن تحذو حذو بلدان أخرى غنية بالموارد، مثل شيلي والنرويج، في استخدام قواعد المالية العامة لحماية أولوياتها الأساسية، مثل الإنفاق الاجتماعي، من التأثر بتقلب أسعار السلع الأولية.
ولأطر المالية العامة القوية فوائد مهمة أخرى. فهي تشكل الأساس لإدارة الدين السليمة، كما أنها تسمح بتنسيق أفضل بين سياسة المالية العامة والسياسة النقدية، حتى تعمل ذراعا الإدارة الاقتصادية الكلية معا، وليس بصورة متعارضة.
وأنتقل الآن إلى الركيزة الثانية التي تقوم عليها الإدارة الرشيدة للمالية العامة، وهي الحوكمة الرشيدة والشفافية. وفي هذا السياق، تشير الحوكمة إلى الأطر والممارسات المؤسسية في القطاع العام. وتشكل المؤسسات القوية عاملا حيويا لتحقيق الشرعية، وتعزيز فهم المواطنين لأهداف السياسات بصورة أوضح، وإعطائهم صوتا أقوى للتعبير عن الرأي، وكسب مساندتهم لسياسة المالية العامة.
ومن ناحية أخرى، كما قال كثيرون، إن المؤسسات الضعيفة تعني ركيزة ضعيفة للسياسات يمكن أن تتصدع وتتداعى؛ بسبب عدم كفاية الشرعية والمساءلة العامة. والأسوأ من ذلك أن هذه التصدعات يمكن أن تؤدي أيضا إلى إتاحة شق يتسلل منه الفساد. وتعلمون جيدا أن هذا بمنزلة سم اجتماعي؛ فهو يغذي التنافر والانفصال وخيبة الأمل، خاصة بين الشباب. فكلمة corruption أو "فساد" بالإنجليزية مشتقة من جذر لاتيني يعني التعفن والتحلل - أو التفكك. وكلمة فساد باللغة العربية تشير إلى فكرة التعفن أو التفسخ أيضا. والفساد هو عامل الإرباك الأكبر لسياسة المالية العامة. فبدون ثقة في عدالة النظام الضريبي، تزداد صعوبة تعبئة الإيرادات اللازمة للإنفاق على الاحتياجات الضرورية في مجالات الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية. وقد تنزع الحكومات إلى تفضيل المشاريع المظهرية الضخمة بدلا من الاستثمار في الموارد البشرية والإمكانات الإنتاجية. أضف هذه النزعة وستكون أمام وصفة لسياسة المالية العامة غير القابلة للاستمرار مقرونة بحالة من التنافر الاجتماعي. هذه قضية عالمية، تنطبق على البلدان الكبيرة والصغيرة، وعلى الاقتصادات المتقدمة وذات الدخل المنخفض، وعلى القطاعات العامة والخاصة. ومن هنا، لا غرابة في أن تخلص أبحاث الصندوق إلى أن الحوكمة الضعيفة والفساد يرتبطان بانخفاض كبير في النمو، والاستثمار، والاستثمار الأجنبي المباشر، والإيرادات الضريبية - ومستويات أعلى من عدم المساواة والإقصاء. وعلى وجه التحديد، وجدنا أن تحسن الدرجة على مؤشرات الفساد والحوكمة بالانتقال من الربع الأدنى إلى المستوى الأوسط يرتبط بارتفاع قدره 1.5 - نقطتان مئويتان في نسبة الاستثمار إلى إجمالي الناتج المحلي، وبزيادة قدرها نصف نقطة مئوية أو أكثر في نمو نصيب الفرد السنوي من إجمالي الناتج المحلي. فما الحل إذن لضعف الحوكمة والفساد؟ في ميدان المالية العامة، يتطلب الأمر زيادة شفافية المالية العامة، تسليط ضوء على كل جوانب الميزانية والحسابات العامة. ومن شأن هذا أن يقدم صورة أدق لمركز المالية العامة وآفاقها المتوقعة، والتكاليف والمزايا طويلة الأجل لأي تغييرات في السياسة القائمة، ومخاطر المالية العامة المحتملة التي قد تتسبب في انحراف المسار. وهناك مجال لتحسين هذا الجانب في هذه المنطقة. ونحن نعلم أن هذا النوع من الإصلاحات يؤتي ثماره. لنأخذ مثلا حالة جورجيا. فحتى عام 2003، كانت تعد من أكثر البلدان فسادا على مستوى العالم. ولكنها قامت بعد ذلك بإصلاح مؤسساتها وشن حملة على الفساد. وأدى ذلك، مع الإصلاح الضريبي، إلى حدوث تحسينات فورية. فالإيرادات الضريبية زادت من 2.5 في المائة من إجمالي الناتج المحلي في 2003 إلى 12 في المائة من إجمالي الناتج المحلي في 2008، حيث أصبح دافعو الضرائب على ثقة أكبر في عدالة النظام. وجدير بالذكر أن الصندوق بدأ أخيرا زيادة انخراطه مع البلدان الأعضاء في مجال الحوكمة والفساد. ففي العام الماضي، وضعنا إطارا جديدا يقوم على المشاركة في جهود البلدان الأعضاء حول هذه القضايا بصورة أكثر منهجية ومساواة وفعالية وصراحة. وسنتواصل مع القادة في هذه المنطقة لمناقشة الطرق الممكنة للعمل معهم من أجل تنفيذ هذا الإطار. ومع تحسين الحوكمة، يمكننا التخلص من حالة التفكك الناجمة عن الفساد ليحل محلها الاندماج في الاقتصاد المنتِج. يمكننا إحلال الإصلاح محل الفساد، إصلاح يضع الأمور في نصابها لكي يتصالح الناس بعضهم مع بعض.