الذكاء الاصطناعي ومستقبل العمل
أخذ موضوع "مستقبل العمل" أهمية متزايدة عالميا في ظل تسارع وتيرة الابتكارات وتأثير التقنية الحديثة في طبيعة العمل. فقد ناقشت دول مجموعة العشرين عام 2018 مجموعة من السياسات التي ينبغي اتخاذها للتحضير لمستقبل العمل، وأصدرت مجموعة البنك الدولي تقريرا في العام نفسه يستعرض الطبيعة المتغيرة للعمل، وبالتزامن مع ذلك نشر صندوق النقد الدولي ورقة عمل تبحث تأثير التقنية الحديثة في سوق العمل.
ويعود هذا الاهتمام بالموضوع إلى القلق المتزايد من إحلال التقنية الحديثة لآلاف المهام الروتينية وقضائها على عديد من الوظائف ذات المهارات المتدنية، وبالتالي انتشار البطالة على نطاق واسع. فقد بدأ الذكاء الاصطناعي باستبدال عدد من المهام التي يقوم بها الإنسان، ومن المتوقع أن يستمر في ذلك مستقبلا. وعلى وجه الخصوص، فإن تقنية الذكاء الاصطناعي التي تسمى"التعلم العميق" تسمح للأنظمة بالتعلم والتحسن عن طريق دراسة التصرفات بدلا من أن تكون مبرمجة من قبل الإنسان مسبقا. ويتم استخدامها حاليا في محركات البحث على الإنترنت، ومنع رسائل البريد الإلكتروني غير المرغوب فيها Spam، واقتراح ردود للرسائل الإلكترونية، وترجمة صفحات الإنترنت، والتعرف على الأوامر الصوتية، والكشف عن الغش في البطاقات الائتمانية.
وباستخدام الذكاء الاصطناعي، سيأتي الوقت الذي تستبدل فيه تقنية الدرونز بعمال البريد وخدمات التوصيل، وتستبدل السيارات ذاتية القيادة بسائقي الأجرة، وتستبدل تقنية الترجمة الفورية بالمترجمين، إضافة إلى الاستغناء عن محللي الائتمان بسبب نظم الحلول الحسابية "الخوارزميات" التي تساعد على اتخاذ قرارات الإقراض آليا. وفي الواقع، يعتمد حاليا بنك سبيربنك -وهو أكبر بنك في روسيا الاتحادية– على الذكاء الاصطناعي في اتخاذ 35 في المائة من قراراته المتعلقة بالإقراض، ويتوقع رفع هذا المعدل إلى 70 في المائة في أقل من خمس سنوات، بينما تستخدم شركة آنت فايننشيال -وهي شركة للتقنية المالية في الصين- البيانات الكبيرة ونظم الحلول الحسابية "الخوارزميات" لتقييم الكفاءة الائتمانية عند تقديم القروض عوضا عن توظيف محللي الائتمان.
يذكر أن التخوف من تأثير التطور التقني في الوظائف ليس بجديد، فهو التخوف نفسه الذي راود الاقتصادي ديفيد ريكاردو في حديثه عام 1821 عن "تأثير الآلات في مصالح الطبقات المختلفة من المجتمع"، وعلى وجه الخصوص "رأي الطبقة العاملة أن الآلات غالبا ما تضر بمصالحهم"، والقلق نفسه الذي شعر به المفكر كارل ماركس عام 1867 حين قال: "الآلات لا تعد فقط منافسا متفوقا على العامل، بل توشك أن تجعله غير ضروري"، وكذلك الاقتصادي جون كينز عام 1930 عندما حذر من ارتفاع معدلات البطالة بسبب التطور التقني أو ما أسماه"البطالة التقنية".
ورغم التخوف التاريخي، إلا أن الابتكار والتطور التقني عززا من مستويات المعيشة ورفعا من الإنتاجية وحققا قفزات نوعية لرخاء البشرية. وإذا كان الابتكار والتطور التقني يقضيان على عديد من الوظائف، فأيضا يولدان وظائف في مهام وقطاعات جديدة. وباستخدام التقنية تقوم الشركات بإيجاد أسواق جديدة لتداول السلع والخدمات، بما في ذلك إيجاد أسواق لأصحاب الأعمال الحرة. ومثال على ذلك استخدام المنصات الرقمية لتوسيع النطاق الجغرافي للشركات وتحفيز اقتصاد المشاركة، حيث تمكنت شركة علي بابا الصينية من الوصول إلى مليون مستخدم في عامين وتوفر لديها أكثر من تسعة ملايين تاجر في أكثر من 150 بلدا، الأمر الذي لم تحققه الشركات التقليدية في عقود زمنية. كما أن منصة Airbnb التي توصل أصحاب المساحات الخالية بأولئك الذين يبحثون عن مساكن مؤقتة تعد من أكبر المزودين عالميا لأماكن الإقامة لفترات قصيرة، حيث يقيم يوميا نحو مليوني شخص حول العالم في مساكن مؤقتة تم توفيرها من خلال منصة Airbnb، وهي بذلك تنافس بشراسة أكبر الفنادق العالمية. وإذا كان البعض تعد الابتكار والتطور التقني خطرا يواجه سوق العمل، فإن البعض الآخر يراه فرصة ينبغي انتهازها. وبالفعل، فإن شركات التقنية العملاقة تستثمر بقوة في شركات الذكاء الاصطناعي الناشئة وتتنافس في جذب أفضل الباحثين في هذا المجال من الأوساط الأكاديمية. وتشير بيانات صدرت عن شركة ماكينزي إلى أن الإنفاق العالمي على تطوير الذكاء الاصطناعي بلغ 34 مليار دولار في عام 2016، أي ما يقارب 15 ضعفا مما تم إنفاقه في عام 2010.
وخلال السنوات المقبلة، ومع دخول الذكاء الاصطناعي في جميع أجزاء حياتنا، فإن التطور التقني سيفيد أصحاب المهارات العالية الذين باستطاعتهم القيام بالأنشطة التي يصعب على الآلة القيام بها، حيث ستتغير المهارات والقدرات المطلوبة في سوق العمل، وسيكون التركيز منصبا على القدرات التقنية، والمهارات الاجتماعية، والإمكانات المعرفية مثل حل المشكلات والتفكير المنطقي والإبداع. وللاستفادة من الفرص التي يقدمها التطور التقني ومواكبة الطبيعة المتغيرة للعمل، من المهم معرفة المهارات التي تتطلبها سوق العمل المتغيرة، والحرص على اكتساب وصقل هذه المهارات، خاصة تنميتها في الجيل الناشئ الذي قد يعمل مستقبلا في وظائف غير موجودة حاليا.