3 مجالات للتحرك على صعيد السياسات
بالفعل هذه لحظة فارقة تتطلب منا "التصرف بحرص". ويعني هذا أنه ليس علينا أن نتجنب الزلل في خطواتنا على صعيد السياسات وحسب، بل أيضا أن نتأكد من اتخاذ الخطوات الصحيحة في هذا المجال.
وأرى ثلاثة مجالات للعمل يعزز بعضها بعضا: في السياسات المحلية؛ وفي السياسات العابرة للحدود؛ وفي الجهود المنسقة لمعالجة أهم التحديات العالمية التي نواجهها جميعا.
وأود التطرق إلى كل منها على حدة:
أ- السياسات المحلية لبناء اقتصادات أكثر صلابة واحتواء للجميع:
بادئ ذي بدء، يجب أن تتيح السياسات ظروفا داخلية تساعد الناس على النجاح. ولعلكم سمعتموني أقول "ينبغي أن نصلح السقف" خاصة فيما يتعلق بالإصلاحات الهيكلية التي يمكن أن تساعد على دفع الإنتاجية والنمو طويل الأجل. لكن بطبيعة الحال، لا يوجد حل واحد يصلح للجميع، فالسياسات ينبغي أن تكون مصممة بما يلبي احتياجات كل بلد على حدة.
أما بشكل عام، فينبغي أن تهدف السياسة الاقتصادية الكلية إلى تأمين النمو والاستقرار. فينبغي أن تكون السياسة النقدية تيسيرية حيثما يكون التضخم دون المستوى المستهدف، كما ينبغي أن تعمل على تثبيت التوقعات. وينبغي استخدام مرونة سعر الصرف، حسب مقتضى الحال، للمساعدة على امتصاص الصدمات. كذلك ينبغي تقوية القطاع المالي وخفض المخاطر بالحفاظ على زخم الإصلاح التنظيمي. والواقع: إن كثيرا من الاقتصادات لا يتمتع بالصلابة الكافية. فالدين العام المرتفع وأسعار الفائدة المنخفضة لا يتيحان مساحة كافية للتحرك عندما يدخل الاقتصاد في مرحلة الهبوط المقبلة، وهي آتية لا محالة.
وبالنسبة لكثير من البلدان، يعني هذا استخدام سياسة المالية العامة بطريقة أكثر ذكاء، وهو ما يعني بدوره تحقيق التوازن الصحيح بين النمو وإبقاء الدين في حدود يمكن تحملها وتحقيق الأهداف الاجتماعية.
ولأنني توليت منصب وزير المالية في السابق، أعلم أن تحقيق ذلك ليس بالأمر السهل. فهو ينطوي على بناء هوامش أمان في المالية العامة في فترات اليسر، مع إيجاد حيز مالي كافٍ للتصرف في فترات العسر. وينطوي على عمل جاد شاق مستمر للنهوض بالنظم الضريبية، وتعبئة الإيرادات المحلية، وتحديد أولويات الإنفاق الداعم للنمو وتخفيض الدين العام حيثما اقتضت الحاجة.
وينطوي هذا أيضا على معالجة عدم المساواة المفرط. وهنا يمكن للسياسة المالية العامة أن تقوم بدور أساس عن طريق اتخاذ إجراءات لتطبيق الضرائب التصاعدية التي ينبغي تصميمها حسبما يناسب كل بلد، وتقوية شبكات الأمان الاجتماعي التي يمكن أن تساعد على معالجة الاضطرابات المترتبة على التغير التكنولوجي والعولمة.
وعلاوة على ذلك، يمكن أن تساعد السياسة المالية العامة على توسيع نطاق الفرص المتاحة بتوفير فرص التعليم والرعاية الصحية والبنية التحتية على مستوى عال من الجودة خاصة لمن ترِكوا وراء الركب أو أغْفِلوا تماما. وفي كثير من البلدان، يعني هذا توجيه اهتمام خاص للشباب والنساء.
إن هذا النوع من إجراءات السياسة يمكن أن يساعد على بناء الطمأنينة والثقة وتجاوز تصورات الاقتسام الجائر للمزايا الاقتصادية، وهناك مجال تتنامى فيه هذه التصورات، وهو التركز المتزايد للنفوذ السوقي في يد عدد قليل من الشركات العملاقة.
ويشير تحليل جديد أجراه الصندوق إلى أن تزايد النفوذ السوقي للشركات في الاقتصادات المتقدمة على مدار العقدين الماضيين لم يكن له أثر يذكر في الاستثمار والناتج والنسبة التي تحصل عليها العمالة من الدخل القومي، لكننا وجدنا أيضا أن عددا قليلا من الشركات عالية الديناميكية هو الذي يستحوذ على أكبر علاوات على السعر. وبعبارة أخرى، هناك ديناميكية مؤداها أن "الفائز له نصيب الأسد" وهي بارزة في الاقتصاد الرقمي بشكل خاص.
ولا أقول إننا الآن أمام "مشكلة احتكار". لكنني أقول إننا ينبغي أن نتخذ الإجراءات الملائمة حتى لا تصبح هذه مشكلة.
ويعني هذا تخفيض الحواجز أمام دخول الشركات الجديدة وإصلاح أطر المنافسة لضمان تهيئة الظروف للمنافسة العادلة في جميع القطاعات، سواء التقليدية أو عالية التقنية.
ب- الجهود العابرة للحدود لتهيئة ظروف أكثر دعما للمنافسة العادلة
يقودني هذا إلى المجال الثاني الذي يكتسب أولوية في التحرك المطلوب، وهو السياسات العابرة للحدود. وفي هذا السياق، هناك طائفة متنوعة من القضايا الاقتصادية التي ينبغي معالجتها: تحسين قواعد التنظيم المالي، وتعزيز شفافية أوضاع الدين، ومعالجة التدفقات المالية غير المشروعة على سبيل المثال لا الحصر. ولكن حين يتعلق الأمر بتهيئة الظروف للمنافسة العادلة عبر الحدود، لا نجد قضية أبرز من التجارة. وهو مجال تشترك فيه الغرفة مع الصندوق من جوانب عديدة.
ونعلم أن الاندماج التجاري على مدار عقود طويلة ساعد على زيادة الرخاء والحد من الفقر ونشر التكنولوجيات الجديدة ورفع الإنتاجية. وبالنسبة للناس في مختلف أنحاء العالم، أدى الاندماج التجاري إلى تخفيض تكلفة المعيشة وتوفير الملايين من الوظائف الجديدة ذات الأجور المرتفعة.
وفي الوقت نفسه نعلم أن الفائدة لم تعم على الجميع، وأن هناك تشوهات في النظام التجاري، وأنه بحاجة إلى إصلاح، ونعلم أيضا أن الحواجز التجارية ليست هي الحل. فهناك مزيد من البحوث التي أجراها الصندوق ويوشك على إصدارها يشير إلى الأهمية البالغة لتجنب الخطوات الخاطئة في السياسات ذات الصلة.