تأثير الفساد .. تعريفه وقياسه «2 من 2»
على الرغم من التقدم في سياسات الاقتصاد الكلي، لم تكتمل بإرساء الحوكمة الرشيدة على المدى الأطول في كثير من البلدان، خاصة الإصلاحات السياسية والمؤسسية. وتفيد الأدلة المستمدة من مؤشرات الحوكمة العالمية أن الركود أصاب فاعلية الحكومة والسيطرة على الفساد والصوت والمساءلة في المنطقة، في المتوسط، بينما تدهورت الجودة التنظيمية وسيادة القانون، بوجه عام.
وفي نهاية 2013، جاءت جودة الحوكمة في أمريكا اللاتينية بعد مثيلاتها في المناطق التي يندرج معظمها تحت فئة الدخل المتوسط، مثل أوروبا الوسطى والشرقية، اللتين حققتا تقدما أثناء التحول من نظام التخطيط المركزي إلى النظام القائم على السوق والانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. وبالمثل، حققت منطقة شرق آسيا - بتركيزها على اتباع استراتيجية طويلة الأجل وإقامة بيروقراطيات مستقلة تقوم على الجدارة - تفوقا على أمريكا اللاتينية في كثير من أبعاد الحوكمة، بما فيها فاعلية الحكومة وسيادة القانون والسيطرة على الفساد، مع استثناء بعد الصوت والمساءلة، وهو من مواطن القوة النسبية لدى أمريكا اللاتينية. ويلاحظ أن متوسط مراتب البلدان في أمريكا اللاتينية أدنى من المستوى الوسيط العالمي في كل مؤشرات الحوكمة، عدا الصوت والمساءلة اللذين يتجاوزان المستوى الوسيط بالكاد. وتحتل أمريكا اللاتينية مرتبة ضعيفة للغاية فيما يخص إعمال سيادة القانون. وبالنسبة إلى الأمن الشخصي وانتشار الجرائم، تحتل المنطقة مرتبة بالغة الانخفاض.
وتخفي متوسطات المناطق كثيرا من الاختلافات بين البلدان. فتشيلي وكوستاريكا وأوروجواي، على سبيل المثال، تحتل مرتبة مرتفعة نسبيا في مجال الحوكمة، على خلاف معظم البلدان الأخرى التي تقل مراتبها عن المستوى العالمي الوسيط، وبعضها، مثل فنزويلا، التي يحتل مرتبة بالغة الضعف. وتتفاوت الاتجاهات العامة أيضا. فبعض البلدان - مثل أوروجواي ذات النظام السياسي المنفتح بشكل متزايد، والسكان الملتزمين بالقانون، والتساهل شبه المعدوم مع ممارسات الفساد، وباراجواي التي بدأت من مستوى شديد الانخفاض - حققت تحسنا في السيطرة على الفساد بمرور الوقت، بينما شهدت فنزويلا تراجعا ملحوظا.
وسعيا إلى الحد من الفساد الأصغر المرتبط بفرط البيروقراطية، قام عدد من البلدان، مثل كولومبيا والمكسيك وكوستاريكا، بتقليص الروتين، لكن كثيرا من البلدان لا يزال متأخرا في هذا المسار.
وبصورة أعم، من حيث التنافسية العالمية تبعا لمقياس المنتدى الاقتصادي العالمي، هناك سبعة بلدان فقط من بين 18 بلدا في أمريكا اللاتينية تندرج في مراتب النصف الأول على المؤشر الذي يغطي 144 بلدا. ولا تتضمن المراتب الـ50 العليا إلا تشيلي - في المرتبة الـ33 وفي تراجع - وبنما "التي تحتل المرتبة الـ48". والعامل الرئيس الذي يخفض تنافسية المنطقة، هو جودة المؤسسات التي تعد دون المستوى.
وهناك عدة بلدان في المنطقة تعتمد اعتمادا كبيرا على السلع الأولية، ولا سيما الموارد الطبيعية، مثل النفط والمعادن. ومع بعض الاستثناءات، مثل تشيلي تليها كولومبيا والبرازيل إلى حد ما، نجد أن حالة الحوكمة والسيطرة على الفساد أسوأ في متوسط البلدان الغنية بالثروات الاستخراجية مقارنة ببقية بلدان المنطقة. وتشير الأدلة المستمدة من كل المناطق، بما فيها أمريكا اللاتينية، إلى أن البلدان الغنية بالموارد عموما، لم تغتنم فرصة الدورة السلعية الاستثنائية في العقد الماضي لإجراء إصلاحات في الحوكمة. فالبيانات تشير إلى تراجع الصوت والمساءلة في كثير من البلدان، ومنها أمريكا اللاتينية، "حيث زادت القيود على المجتمع المدني أثناء تلك الفترة، خاصة في بعض البلدان الغنية بالنفط"، إضافة إلى السيطرة على الفساد، ما عدا في كولومبيا والبرازيل، على سبيل المثال، وسيادة القانون.
يتضح مدى تأثير الحوكمة في التنمية من خلال الأبحاث القائمة على بيانات مؤشرات الحوكمة العالمية. فقد خلصنا إلى أن متوسط المكاسب التي تحققها التنمية بفضل الحوكمة الرشيدة تعادل 300 في المائة على المدى الطويل، إذ تبين وجود رابطة سببية بين حدوث تحسن في الحوكمة - كالانتقال من ضعف السيطرة على الفساد "أو سيادة القانون" كما في فنزويلا، إلى مستوى السيطرة السائد في الأرجنتين أو المكسيك أو بيرو، أو من أي من هذه البلدان الثلاثة، إلى المستويات الأعلى المشاهدة في كوستاريكا - وارتفاع دخل الفرد بما يعادل ثلاثة أضعاف، وانخفاض وفيات الأطفال الرضع بمقدار الثلث، وحدود ارتفاع ملحوظ في معدلات الإلمام بالقراءة والكتابة. ولا توجد دلائل على أن ضعف الحوكمة يمكن تعويضه بالدخل الإضافي في البلدان الغنية بالموارد أو المرونة التي يمكن أن تحققها المكاسب الاستثنائية من ارتفاع أسعار السلع الأولية. فالبيانات تشير إلى أن الحوكمة الرشيدة تحقق مكاسب في التنمية للاقتصادات الغنية بالموارد تعادل - على الأقل - ما تحققه في البلدان الأخرى. بل إن هناك أدلة بحثية ظهرت أخيرا تفيد بأن ضعف الحوكمة يعوق الاستثمار في أعمال التنقيب عن النفط.