«المفارقة الأرجنتينية» .. من أغنى 10 دول إلى اقتصاد تتخطفه الديون والركود وانهيار العملة
تعد الأرجنتين حالة فريدة ومميزة في الدراسات الأكاديمية الاقتصادية إلى الحد الذي برز معه مصطلح خاص بها يسمى "المفارقة الأرجنتينية"، فهي حالة خاصة من نوعها إلى حد كبير، إذ حققت تقدما اقتصاديا ملحوظا في أوائل القرن الـ20.
وبحلول عام 1913 أصبحت الأرجنتين ضمن أغني عشر دول في العالم، فيما يتعلق بمستوى دخل الفرد، وخلال العقود الثلاثة الأولى من القرن الـ20 تفوقت على كندا وأستراليا من حيث عدد السكان وإجمالي الدخل ومتوسط الدخل الفردي.
إلا أن الاقتصاد الأرجنتيني ومنذ الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن الماضي تدهور بشكل ملحوظ، للدرجة التي عجز معها عن سداد ما عليه من ديون منذ الاستقلال في أوائل القرن الـ19، وغالبا ما كان التضخم مرتفعا بمستويات قياسية، وبلغ في بعض الأحيان 5000 في المائة، ما دفعها إلى تخفيض قيمة عملتها البيزو.
الدكتور كين هارود أستاذ اقتصاد الأمريكتين في جامعة أكسفورد، يشير إلى أن عدم الاستقرار السياسي منذ ثلاثينيات القرن الماضي، وغياب رؤية اقتصادية واضحة يعدان السببين الأساسين وراء انتكاسة الاقتصاد الأرجنتيني.
ويضيف لـ"الاقتصادية"، "منذ الثلاثينيات وحتى سبعينيات القرن الماضي تبنت بوينس آيرس استراتيجية استبدال الواردات لتحقيق الاكتفاء الذاتي الصناعي، وأدى تشجيع النمو الصناعي إلى تراجع النمو الزراعي بشكل كبير، وبحلول عام 1976 انتهت تلك السياسة، لكنها خلفت زيادة في الإنفاق الحكومي، وإنتاجية غير فعالة وتضخما مزمنا، ونتيجة لسوء إدارة الملف الاقتصادي تضخمت الديون الخارجية، لتبلغ بحلول الثمانينات ثلاثة أرباع الناتج المحلي الإجمالي، وفي التسعينات تم كبح التضخم من خلال مساواة العملة الوطنية بالدولار، وتم دعم الخصخصة ببيع القطاع العام، واستخدام عوائده لسداد الديون، ومع هذا ظل الركود مستمرا منذ بداية الألفية الحالية مع خفض متواصل للعملة الوطنية، وعجز ملحوظ عن سداد الديون".
ولا تزال الأرجنتين حتى اليوم نموذجا للمفارقات الاقتصادية العجيبة، فالبنك المركزي رفع في نيسان (أبريل) الماضي سعر الفائدة من 45 في المائة إلى 62.5 في المائة، في محاولة لخفض السيولة في الأسواق للحد من التضخم.
وبالطبع كان لذلك وقع كارثي على إمكانية التوسع الرأسمالي، فقد أضعف بشكل كبير قدرة رجال الأعمال على الاقتراض لمزيد من الاستثمار، بما يعنيه ذلك من ارتفاع معدلات البطالة التي بلغت نحو 9.20 في المائة.
ويرى مايكل سميث الخبير الاستثماري أن الأرجنتين أبعد ما تكون عن الخروج من أزمتها الاقتصادية، بل يصل به التشاؤم إلى حد اعتقاده أن الأوضاع ربما تشهد مزيدا من التدهور في الفترة المقبلة، إذ يبدو أن الإصلاحات الليبرالية للرئيس ماوريسيو ماكري لم تحقق هدفها ومنيت بهزيمة فادحة.
ويضيف لـ"الاقتصادية"، "في عام 2015 انتخب ماكري متعهدا بتعزيز الاقتصاد المتدهور عبر سلسلة من الإصلاحات الاقتصادية الليبرالية، لكن الانتعاش لم يتحقق، وأكثر من ثلث السكان يعيشون تحت خط الفقر، وإجراءات التقشف المتشددة رفعت أسعار الخدمات العامة، ودخلت البلاد حالة ركود، وسجلت تضخما بنسبة 22 في المائة في النصف الأول من هذا العام، وهو أحد أعلى معدلات التضخم في العالم".
وأشار سميث إلى أن "النتيجة كانت هزيمة ماكري في صناديق الاقتراع، في الانتخابات التمهيدية التي جرت قبل أيام لمصلحة مرشح يسار الوسط، وهذا يعني أن حظوظ الرئيس ماكري بالفوز بفترة رئاسية ثانية في الانتخابات الرئاسية المقرر عقدها في أكتوبر المقبل ضعيفة للغاية، واقتصاديا يترجم ذلك برحيل السياسات الليبرالية لمصلحة سياسات ذات صبغة يسارية شعبوية".
وبالفعل، فإن نتيجة الانتخابات أدت إلى تراجع البيزو الأرجنتيني بنحو 30 في المائة مقابل الدولار، قبل أن يعاود الارتفاع بنحو 15 في المائة، ورغم إعلان الرئيس حزمة من الإصلاحات، فإن العملة الأرجنتينية انخفضت مجددا، أما سوق الأسهم فقد أصيبت بضربة مؤلمة، وفقد بعض الأسهم نصف قيمته في يوم واحد، وأغلقت البورصة الإثنين الماضي بانخفاض قدر بنحو 31 في المائة.
ويبدو حتى الآن أن الإجراءات الإغاثية التي اتخذها الرئيس ماكري بعد فشله الانتخابي، مثل تخفيض ضريبة الدخل، وزيادة إعانات الرعاية الاجتماعية، وتجميد أي زيادة في أسعار البنزين 90 يوما، لم تحدث تغييرات حقيقية في مشهد اقتصادي يتسم بالارتباك والسودوية.
وتعد الديون الخارجية أحد أبرز القضايا الرئيسة التي ستواجهها الأرجنتين في المرحلة المقبلة، ومدى قدرتها على سداد ما عليها من ديون، فعلى الرغم من تعهد المرشح اليساري ألبرتو فرنانديز بسداد ديون بلاده، إلا أن رجال الأعمال لا يزالون متشككين في مدى مصداقية تلك التعهدات، نظرا لميول فرنانديز إلى تبني سياسات شعبوية، قد تتضمن عند التطبيق التوقف عن سداد ديون البلاد الخارجية، لكسب مزيد من التأييد الشعبي، باعتبار ذلك خطوة تمثل تحديا للبلدان الرأسمالية أو المؤسسات المالية الدولية.
ويقول لـ"الاقتصادية"، الدكتور جريفيث شيلدر الاستشاري السابق في صندوق النقد الدولي، إن "ديون الأرجنتين بلغت 325 مليار في آذار (مارس) الماضي، واحتمالية تخلفها عن السداد مرجح بعد فوز فرناديز بنحو 75 في المائة، لكن الإقدام على خطوة من هذا القبيل يعني عمليا عودة البلاد إلى المربع صفر، فالمصداقية الاقتصادية ستتلاشى، وسينهار برنامج الإصلاح الاقتصادي، كما أن برنامج الإنقاذ المالي المدعوم من صندوق النقد بنحو 57 مليار دولار سيتوقف، ومن ثم ستفقد البلاد ثقة المستثمرين الدوليين والمحللين على حد سواء، خاصة أن عليها سداد 17 مليار دولار بين شهري سبتمبر وديسمبر هذا العام".
ويضيف شيلدر أن" الأرجنتين نموذج اقتصادي لسوء الإدارة وليس لقلة الموارد، فالناتج المحلي الاجمالي يتجاوز 500 مليار دولار، وهي أحد الاقتصادات الرائدة في أمريكا اللاتينية، وتحتل المرتبة الثالثة، ولديها أراض خصبة غير عادية، وإمكانات ضخمة في مجال الطاقة المتجددة، وبالطبع ثروة حيوانية هائلة، ودرجة ملموسة من صناعات التكنولوجيا المتقدمة، ومع هذا ثلث السكان تحت خط الفقر، ونسبة الفقر بين الأطفال بين 0 و14 سنة تبلغ 41 في المائة، وقد سمح البرنامج الإصلاحي بتصحيح بعض الاختلالات في الاقتصاد الكلي، إلا أن السياق الاقتصادي لا يزال متقلبا، خاصة مع انخفاض بنسبة 2.5 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العام الماضي وتوقع حدوث انكماش بنسبة 1.3 هذا العام، وتضخم بلغ 50 في المائة، وهو أعلى مستوى منذ عام 2019، وتراجع قيمة البيزو منذ بداية العام الجاري بنحو 13 في المائة".
وفي ضوء تلك التطورات، تبدو الأرجنتين غير قادرة على الخلاص من أزمتها الاقتصادية، إذ تقف مجددا على أعتاب أزمة مالية مكتملة الأركان، تبدت ملامحها في تخلص المستثمرين من الأسهم والسندات والعملة الوطنية، وما الحديث عن إعادة التفاوض بشأن الديون، إلا مقدمة للتنصل منها، وكلما ضاق الخناق الاقتصادي على البلاد تراجعت قيمة البيزو.
وربما يبدو ذلك خبرا سارا للراغبين في الاستثمار، لكنه خبر مقيت لحكومة يضيق الخناق عليها إزاء قدرتها على سداد ديونها، ومن ثم يدفعها دفعا لإعادة التفاوض على سداد ديونها، أو الإعلان للمرة التاسعة في تاريخها أنها غير قادرة على السداد كتعبير مهذب عن الإفلاس.