دور صندوق النقد الدولي اليوم وغدا «1 من 3»
العالم يتغير، والصندوق يتغير معه. لكن السؤال هنا لا يرتبط فقط بالكيفية التي يجب أن يتغير بها الصندوق للحفاظ على أهميته، لكنه يرتبط أيضا بما إذا كانت البيئة السياسية ستسمح له بالحفاظ على أهميته. ويقوم الصندوق على الالتزام بالتعاون بين بلدانه الأعضاء، غير أن هذا الالتزام لم يعد قويا كما كان. لكن بلدان العالم قد تعيد اكتشاف أهميته، وستدرك حينها أن الصندوق يمثل أداة ثمينة. ولا يمكن للصندوق ضمان هذه النتيجة، لكن يمكنه، بل يتعين عليه، الاستعداد لها. وهذا هو ما يقوم به الصندوق بالفعل في الوقت الحالي، وهي خطوة يجدر الترحيب بها.
إن العالم المحيط بالصندوق تغير بالفعل، أو آخذ في التغير، في عدة جوانب أساسية. ويتمثل التغير الأول والأهم في تحول ميزان القوى الاقتصادية، وبالتالي السياسة العالمية. ففي عام 2000، بلغت مساهمة الاقتصادات المتقدمة في الناتج العالمي 57 في المائة، مقيسة على أساس تعادل القوى الشرائية.
لكن هذه النسبة ستتراجع إلى 37 في المائة بحلول عام 2024 حسب تنبؤات الصندوق. وفي الوقت نفسه، سيقفز نصيب الصين إلى 21 في المائة مقابل 7 في المائة، بينما ستبلغ مساهمة بقية بلدان آسيا الصاعدة 39 في المائة من الناتج العالمي، مقابل 14 في المائة في الولايات المتحدة، و15 في المائة في الاتحاد الأوروبي.
وبالنسبة للتحول الثاني، فيتمثل في اشتداد المنافسة بين القوى العظمى في ظل تدهور العلاقات بين القوى الغربية والصين الصاعدة. الولايات المتحدة وصفت الصين بأنها "منافس استراتيجي". أما الاتحاد الأوروبي، فوصفها فقط بأنها "منافس اقتصادي يسعى إلى قيادة المجال التكنولوجي". وفي الحالتين، يبدو من المؤكد أن التعاون سيصبح أكثر صعوبة.
أما التغير الثالث، فهو عبارة عن تحول إلى السياسات الشعبوية، ولا سيما في الاقتصادات المتقدمة. وتتمثل إحدى سمات هذه النزعة الشعبوية في الشك في الخبرات التكنوقراطية. ولا يؤثر ذلك في مصداقية المؤسسات التكنوقراطية المحلية فحسب، بما في ذلك البنوك المركزية المستقلة ووزارات المالية، لكن في مصداقية المؤسسات التكنوقراطية الدولية أيضا، وربما يكون الصندوق أهمها.
ويتمثل التغير الرابع في تباطؤ العولمة أو انعكاس مسارها تماما. وينطبق ذلك خصوصا على بعض المجالات المالية، كالتراجع الحاد في المطالبات الأجنبية لمصارف منطقة اليورو، لكنه ينطبق على التجارة أيضا؛ فقبل الأزمة المالية التي وقعت عبر المحيط الأطلنطي، ارتفع حجم التجارة العالمية بضعف وتيرة ارتفاع الناتج العالمي تقريبا، بينما تنمو التجارة والناتج حاليا بالوتيرة نفسها تقريبا. بل شهد العالم أخيرا صعود نزعة حمائية واضحة في الولايات المتحدة.
ويرتبط التغير الخامس بالتكنولوجيا. وكان التقدم التكنولوجي بمنزلة القوة الدافعة وراء النمو الاقتصادي. لكن دور الإنترنت والتطورات الأخيرة في الذكاء الاصطناعي ترتبت عليه مواطن ضعف واضطرابات جديدة، مثل الهجمات الإلكترونية والتحولات الحادة في أسواق العمل.
أما التغير السادس فيتمثل في تفاقم مواطن الهشاشة في النظام المالي التي تراكمت عبر العقود. وقد بذلت جهود كبيرة للحد من هذه الهشاشة، ولا سيما من جانب الصندوق. وعلى الرغم من ذلك ارتفعت نسبة الدين إلى الناتج الإجمالي وتحول الدين من القطاع الخاص إلى القطاع العام، ومن الاقتصادات المتقدمة إلى اقتصادات الأسواق الصاعدة إلى حد ما. ومن الممكن للغاية حدوث مزيد من الاضطرابات المالية.
ويتمثل التغير السابع في الظاهرة التي سميت باسم "الكساد طويل الأجل" كما وصفها لورنس سامرز من جامعة هارفارد في مؤتمر الصندوق المنعقد عام 2013. فضعف الطلب، كما يتضح من مزيج معدلات التضخم المنخفضة وأسعار الفائدة الحقيقية والاسمية شديدة الانخفاض، يبدو هيكليا ويرجح استمراره بالتالي. وقد يكون الحيز المتاح للاستجابة الفعالة للهبوط الاقتصادي من خلال السياسات التقليدية أو حتى السياسات غير التقليدية المعتادة محدودا للغاية.
أما التغير الأخير، فيتمثل في تزايد أهمية تغير المناخ بوصفه إحدى قضايا السياسات. ويرجح أن تكون لذلك آثار مهمة على استراتيجيات التنمية والسياسات الاقتصادية الكلية في جميع البلدان، ولا سيما البلدان الأكثر فقرا وتعرضا للخطر.
تصنع جميع هذه التغيرات بيئة زاخرة بالتحديات بالنسبة للصندوق الذي يتغير هو الآخر. وبالفعل فإن السمة التي طالما لازمت الصندوق تكمن في قدرته على التأقلم مع التغيرات المتتالية التي يشهدها العالم. ويعكس ذلك جزئيا المهارات الرفيعة التي يتمتع بها خبراء الصندوق وإدارته العليا التي عادة ما تضم أعضاء أكفاء.
غير أن الصندوق تعوقه أيضا قدرته المحدودة على التأثير في الإجراءات التي تتخذها البلدان ذات موازين المدفوعات القوية، أو الولايات المتحدة المصدرة للدولار الذي يمثل عملة الاحتياطيات العالمية. وهذه ليست بالقضية الجديدة، فقد اعترف بها مؤتمر بريتون وودز عام 1944 ولم تحل حتى الآن.