الاقتصاد «التجريبي» يقود إلى «نوبل»
على عكس العلوم الطبيعية التي يملك مختصوها مختبرات ومعامل للتجارب التي يدرسونها؛ لا يملك الاقتصاديون هذه الميزة، لذا تشتهر عندهم مقولة "العالم هو مختبرنا" The World Is Our Lab، وجاء فوز ثلاثة من الاقتصاديين بجائزة نوبل الأسبوع قبل الماضي ليؤكد هذه المقولة، كما يؤكد انتقال علم الاقتصاد من النظريات والفرضيات والقوانين إلى مدى أعمق وهو حقل الاقتصاد القائم على طريقة التجريب والملاحظة Experimental Methods، فالتجارب لا النظريات والقوانين والفرضيات هي من توج الثلاثة بالجائزة الأهم عالميا.
بإعلان فوزها بجائزة نوبل للاقتصاد الأسبوع قبل الماضي أصبحت إستير دوفلو أستاذة الاقتصاد الفرنسية - الأمريكية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، صاحبة الـ46 ربيعا أصغر الفائزين بالجائزة وثاني امرأة تحصل عليها؛ بالشراكة مع أبهيجيت بانيرجي زوجها ورفيقها في العمل ذي الأصول الهندية، إضافة إلى مايكل كريمر أستاذ التنمية الاجتماعية في قسم الاقتصاد في هارفرد.
الثلاثة أمضوا ما يزيد على 20 عاما في دراسة الفقر ودخلوا في تفاصيل التفاصيل كما يقال؛ وتتبعوا من خلال التجربة والملاحظة كيف يتصرف الفقراء وكيف يفكرون وكيف يمكن تغيير وضعهم بناء على تقديم مغريات بسيطة لهم مثل كيلو من السكر أو القمح أو الفاصوليا أو قليل من المال ليقوموا بتطعيم أولادهم أو يلحقوهم بالمدرسة، وهو ما يعني أن الثلاثة تجاوزا الحلول التقليدية للفقر إلى دراسة سلوك الفقراء أنفسهم والتركيز عليه وهو ما أهلهم للجائزة الكبيرة.
الفائزان الهندي وزوجته الفرنسية كتبا عن التجارب المختلفة التي قاما بها في أكثر من مجتمع في الهند وإفريقيا وبعض دول شرق آسيا في كتابهما "اقتصاد الفقراء .. إعادة نظر جوهرية في أساليب محاربة الفقر العالمي" Poor Economics: A Radical Rethinking of the Way to Fight Global Poverty وفيه قدما نظرة شاملة لإعادة التفكير في طريقة مكافحة الفقر، وحاز الكتاب جائزة العام من "فاينانشيال تايمز" و"جولدمان ساكس" في 2011، وترجم إلى نحو 20 لغة "ترجمه للعربية أنور الشامي"، فيما استطاع كريمر أن يثبت من منتصف التسعينيات جدوى استخدام التجارب الميدانية من أجل اختبار المبادرات المختلفة التي من شأنها تحسين النتائج المدرسية في غربي كينيا.
تاريخيا، يقال إن أول من أطلق مصطلح "مكافحة الفقر" هو روبرت مكنمارا وزير الدفاع الأمريكي السابق ورئيس البنك الدولي بعد ذلك خلال كلمة له في نيجيريا في أواخر الستينيات من القرن الماضي، ومن يومها ومكافحة الفقر هي الشغل الشاغل للبنك الدولي ومجموعاته المختلفة وإن لم تنجح كثيرا مع الأسف.
بالتأكيد يأتي فوز الثلاثة بجائزة نوبل للاقتصاد امتدادا لفوز ريتشارد ثالر العام قبل الماضي بالجائزة ذاتها عن عمله في مجال الاقتصاد السلوكي، فالاقتصاد القائم على التجربة هو جزء من الاقتصاد السلوكي المعتمد على مراقبة سلوك الناس وملاحظته وتدوينه، بعيدا عن التنظير والافتراضات التي يقوم عليها الاقتصاد التقليدي.
ما يعيب طريقة الفائزين الثلاثة أنها تقوم على المراقبة والملاحظة ومتابعة سلوك كل عينة أو بيئة تتم دراستها، وهذا يعني أنها محتاجة إلى جيش كامل من المراقبين والمختصين لتدوين السلوكيات وردات الفعل في كل عينة ومجتمع فقير تتم دراسة حالته.