الخدمات الصحية والغذاء يعرقلان التجارة الحرة بين أمريكا وبريطانيا
في خطوة غير متوقعة، وجه الرئيس الأمريكي دونالد ترمب قبل أيام صفعة قوية لحليفه بوريس جونسون رئيس الوزراء البريطاني، بإعلانه أن الاتفاق الأخير الذي توصل إليه مع الاتحاد الأوروبي بشأن مغادرة المملكة المتحدة التكتل (بريكست)، سيجعل من الصعب التوصل إلى اتفاق تجاري بين لندن وواشنطن بعد إتمام عملية الانسحاب.
قسوة الصفعة تتعلق في جزء منها بأن ترمب اعتاد كيل المديح لجونسون في مواجهة خصومه، بمن فيهم تيريزا ماي رئيسة الوزراء السابقة.
ووصف الرئيس الأمريكي في حزيران (يونيو) الماضي في تصريحات لافتة وغير مألوفة جهود ماي للتوصل إلى اتفاق مع الأوروبيين بشأن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي "بريكست" بأنه "عمل سيئ"، عادا حينها أن جونسون سيصحح تلك الأخطاء.
ورغم أن تصريحات ترمب قوبلت بانتقادات في بعض وسائل الإعلام البريطانية، بعدّها تدخلا سافرا في شأن بريطاني داخلي، إلا أن جونسون منافس ماي على منصب رئاسة الوزراء، عدّ تلك التصريحات بمنزلة دعم قوي له من سيد البيت الأبيض لدخول 10 داونينج ستريت، والمضي قدما في تنفيذ خطته للانسحاب من الاتحاد الأوروبي.
والآن انقلب الوضع، فترمب ينتقد جونسون قبل أسابيع معدودة من توجه المملكة المتحدة إلى انتخابات برلمانية جديدة، تعد حاسمة بشأن الخروج الأوروبي.
ودفعت تصريحات ترمب الحكومة البريطانية إلى سرعة الرد عليه، والقول إن الاتفاق الجديد الذي توصل إليه رئيس الوزراء البريطاني مع الأوروبيين سيضمن "استعادة المملكة المتحدة السيطرة على قوانينها وتجارتها وحدودها وأموالها".
وسعى مكتب رئيس الوزراء البريطاني إلى طمأنة رجال الأعمال عبر التصريح بأن المحادثات مع المسؤولين الأمريكيين حول صفقة تجارية مستقبلية إيجابية حتى الآن.
في الواقع، إن تصريحات ترمب تمثل تراجعا شديدا عن تعهداته في حزيران (يونيو) الماضي، ووعود الرئيس الأمريكي خلال زيارة قام بها للمملكة المتحدة بصفقة "استثنائية" في أعقاب خروجهم من الاتحاد الأوروبي، وكرر تلك الوعود في آب (أغسطس) المنصرم خلال قمة مجموعة السبع، عندما أكد أن الولايات المتحدة ستقوم بصفقة تجارية كبيرة مع بريطانيا بعد مغادرتها، ويصبح التساؤل: هل بات من المستبعد إقامة اتفاقية تجارة حرة بين بريطانيا والولايات المتحدة، وفقا للتصريحات الأخيرة للرئيس الأمريكي؟، أم أن الأمر لا يتجاوز مناورة تجارية من سيد البيت الأبيض لتحقيق مزيد من المكاسب؟ "الاقتصادية"، استطلعت آراء عدد من الاقتصاديين بهذا الشأن لمعرفة السيناريوهات المختلفة المطروحة بشأن آفاق العلاقة التجارية المستقبلية بين لندن وواشنطن إذا ما تأكد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
وتعتقد الدكتورة لورين راسال أستاذة التجارة الدولية في جامعة لندن أنه من الممكن توقيع اتفاق للتجارة الحرة بين المملكة المتحدة والولايات المتحدة، إلا أن الأمر سيتطلب أعواما طويلة من المفاوضات بين الجانبين، دون أن تكون هناك ضمانه لنجاح تلك المفاوضات.
وتضيف لـ"الاقتصادية"، أن الولايات المتحدة لديها فائض تجاري مع المملكة المتحدة، فالصادرات الأمريكية لبريطانيا تقدر حاليا بنحو 141.1 مليار دولار أما الواردات فتقف عند حدود 121.2 مليار دولار، ولا شك أن توقيع اتفاقية تجارة حرة سيحدث نقلة نوعية في أبعاد العلاقة التجارية بين البلدين، إلا أن هناك عديدا من نقاط الخلاف التي يصعب حلها خلال فترة زمنية قصيرة أو عبر عدد محدود من المفاوضات الثنائية".
وحول أبرز النقاط الخلافية التي قد تعرقل تلك الاتفاقية، تعتقد لورين أن هناك رغبة أمريكية في "السيطرة" على قطاع الخدمات الصحية في المملكة المتحدة، وهذا يصيب عديدا من قطاعات المجتمع البريطاني بالتوتر.
وتشير لورين إلى أن "تصريحات السفير الأمريكي بأن قطاع الخدمات الصحية البريطاني، مطروح على مائدة أي مفاوضات مستقبلية لعقد اتفاقية تجارة حرة، أمر قد يواجه بمعارضة كبيرة في الداخل البريطاني، فالإدارة الأمريكية تشتكي من أن الأسعار المرجعية التي يحددها قطاع الخدمات الصحية البريطانية للأدوية منخفضة، بمعنى آخر أن الحكومة البريطانية تقدم دعما للأدوية التي تقوم بصرفها للمرضى، وهذا يعوق المنافسة الحرة مع شركات الأدوية الأمريكية، ومن ثم تطالب عمليا بأن يدفع المريض سعر تلك الأدوية أو جزءا منه".
ووفقا للأرقام البريطانية الرسمية، فإن إجمالي الإنفاق على قطاع الخدمات الطبية في المملكة المتحدة بلغ 144.3 مليار جنيه استرليني عام 2017، وبلغ نصيب الفرد من الإنفاق الصحي في بريطانيا 4246 دولارا عام 2017، مقارنة بمتوسط في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية يصل إلى 3992 دولارا و10209 دولارا في الولايات المتحدة.
الدكتور كيفين كال الاستشاري السابق في وزارة الخارجية البريطانية يؤكد أن المباحثات التجارية بين المملكة المتحدة والولايات المتحدة تتسم دائما بالصعوبة والتعقيد، مشيرا إلى أن الأمر سيكون أكثر صعوبة بعد الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي، إلى الدرجة التي تجعله يشك في إمكانية توقيع اتفاق تجارة حرة بين الطرفين.
ويضيف لـ"الاقتصادية"، أن "التشدد الأمريكي تجاه بريطانيا في أي مباحثات تجارية مستقبلية يجب ألا يشكل مفاجأة، فالاتحاد الأوروبي والصين هما فقط اللذان يتمتعان بثقل اقتصادي للتفاوض، وتحقيق إنجاز مع الجانب الأمريكي خلال فترة زمنية قصيرة، ومن ثم التوصل إلى اتفاقية شاملة للتجارة الحرة بين البلدين تغطي الجوانب المختلفة كافة، أمر صعب المنال، يتطلب تقديم تنازلات كبيرة من الطرفين وكلاهما غير مستعد لذلك".
في هذا السياق، يبرز ما يمكن وصفه بالخلاف الغذائي بين الولايات المتحدة وبريطانيا، بعدّه إحدى أهم النقاط التي يعتقد عديد من الخبراء أنها ستقف عقبة أمام الوصول إلى اتفاق تجارة حرة بين لندن وواشنطن.
ويعتقد ألن كيلف من مجموعة جرينير وهي مجموعة ضغط بيئية بريطانية، أن إحدى أبرز النقاط على جدول أعمال مجموعته، تتطلب ضرورة التصدي لأي اتفاق تجارة حرة بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة إذا أصرت واشنطن على تطبيق معاييرها الزراعية في هذا الاتفاق.
ويوضح لـ"الاقتصادية"، أن بريطانيا حتى اليوم وبوصفها عضوا في الاتحاد الأوروبي لا تسمح بتداول لحوم الأبقار المعالجة بالهرمونات أو الدجاج المغسول بالكلور، وبالطبع ستكون حرة في القبول أو رفض تلك المعايير بمجرد خروجها من الاتحاد الأوروبي، لكن إذا خرجنا من الاتحاد الأوروبي وتوصلنا إلى اتفاق تجارة حرة مع الأوروبيين، فستبرز بعض التعقيدات بضرورة ضمان عدم عبور اللحوم الأمريكية إلى القارة الأوروبية".
ويضيف كيلف، "بالنسبة للمحاصيل الزراعية سنجد أن الزراعة الأمريكية تعتمد على المضادات الحيوية والهرمونات، وبالنسبة للمستهلك البريطاني، فإن القناعة السائدة هي أن هذا النمط الزراعي خطر على حياة الإنسان".
إلا أن الدكتور جورج كريس أستاذ زراعة المحاصيل في جامعة شيفيلد يعتقد أن الضغوط التي قد تتعرض لها بريطانيا من الجانب الأمريكي، لا تعني بالضرورة الخضوع لها، ويشير إلى أن بريطانيا تمتلك عوامل قوة تفاوضية قد تجبر الجانب الأمريكي على الإذعان في نهاية المطاف، والقبول بتوقيع اتفاقية تجارة حرة عادلة بين الطرفين.
ويضيف لـ"الاقتصادية"، أنه "إذا قيست قيمة الواردات فإن سوق الأغذية في المملكة المتحدة هو ثالث أكبر سوق في العالم بعد الصين واليابان، والجميع يسعى للوصول إليه بما في ذلك الولايات المتحدة، ويمكن لبريطانيا أن تقدم بعض التنازلات خلال المفاوضات المستقبلية بشأن اتفاق التجارة الحرة مع واشنطن، من خلال السماح بحصص معفاة من الرسوم الجمركية على بعض المنتجات كجزء من صفقة تجارية مستقبلية".
ويبدو فعليا أن قضية اختلاف المعايير الغذائية بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة قد تكون واحدة من العقبات الكبرى التي قد تحول دون توقيع اتفاق تجارة حرة بين البلدين، فجمعية حقوق المستهلك والوعي الغذائي العام في المجتمع البريطاني، دفع بالحكومة البريطانية إلى تكرار التزاماتها أمام الرأي العام، بأنها لن توقع اتفاقية تؤدي إلى انخفاض المعايير الغذائية في المجتمع، وصرح المتحدث باسم مكتب رئيس الوزراء البريطاني قائلا: "لقد كنا دائما واضحين للغاية، إننا لن نخفض معاييرنا الغذائية كجزء من اتفاقية تجارية مستقبلية".
وبالطبع، فإن الجانب الأمريكي وعبر وودي جونسون سفير الولايات المتحدة في بريطانيا، يعد أن كل ما يقال عن انخفاض المعايير الغذائية الأمريكية مقارنة بنظيرتها الأوروبية، محض خرافات مضللة من قبل الأشخاص الذين لديهم جدول أعمال يدافع عن الحمائية التجارية، مشيرا إلى أن الاتحاد الأوروبي يقوم بغسيل الفاكهة والخضراوات بالكلور باعتبارها الطريقة الأكثر فاعلية واقتصادية أيضا للتعامل مع البكتريا القاتلة مثل السالمونيلا.
ولا تنفي وجهات النظر تلك وجود تيار قوي بين أنصار الخروج الأوروبي، حيث يرون أن توقيع اتفاقية تجارة حرة بين الولايات المتحدة وبريطانيا أمر حتمي، لأنه يحقق مصالح الطرفين، وهذا سيتحقق سريعا بمجرد الخروج من الاتحاد الأوروبي، مؤكدين أن اتفاقية تجارة حرة مع الولايات المتحدة ستتجاوز مكاسبها كل ما عداها من الاتفاقيات التي ستعقدها بريطانيا مع باقي دول العالم باستثناء الاتحاد الأوروبي.
الدكتور بلاك سميث أستاذ الاقتصاد الدولي سابقا في جامعة أكسفورد وعضو حزب بريكست، يعد أن التوقيع على اتفاق تجارة حرة بين بريطانيا والولايات المتحدة سيتم سريعا في أعقاب الخروج من الاتحاد الأوروبي.
ويضيف لـ"الاقتصادية"، أن الاقتصاد الأمريكي حجمه سبعة أضعاف حجم الاقتصاد البريطاني، ومن ثم لن يتضرر الاقتصاد الأمريكي من أي اتفاق مع المملكة المتحدة، أضف إلى ذلك أن الرئيس ترمب في حاجة ماسة ليبعث برسالة للرأي العام الأمريكي مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية بأنه حقق إنجازا اقتصاديا بارزا في ظل الحرب التجارية المعلنة مع الصين وغير المعلنة مع الاتحاد الأوروبي".
ويشير سميث إلى أن اتفاقية التجارة الحرة مع واشنطن ستضيف 80 مليار دولار للاقتصاد البريطاني سنويا، وستخفض الأسعار في الداخل البريطاني بنحو 8 في المائة، عادا أن جوانب الخلاف بين الطرفين تقنية يمكن حلها من قبل المختصين وليست خلافات ذات طبيعة استراتيجية.
ويعتقد سميث أن النقطة المحورية تكمن في فك الارتباط مع الأوروبيين، أما الارتباط مع الولايات المتحدة فسيقع حتما، لأن توقيع واشنطن اتفاق تجارة حرة مع بريطانيا يمنح الولايات المتحدة موطئ قدم ونقطة ارتكاز في الفناء الخلفي للاتحاد الأوروبي، ومن ثم يقلص من القدرة الاقتصادية للأوروبيين لمصلحة الشركات الأمريكية التي يعد ترمب المدافع الأول عن مصالحها الكونية.