إيران .. نمو صفري متوقع في 2020
إحدى المشكلات الرئيسة لعلم الاقتصاد أن إمكانية الخداع والتحايل لا تدوم فيه طويلا، مهما كانت قوة المكينة الإعلامية التي تدعمك.
هذا ما ينطبق بالفعل على السياسة الاقتصادية الإيرانية التي تعد على مفترق الطرق.
لكن كيف يمكن تصنيف الوضع الاقتصادي في إيران؟ هل تقف البلاد أمام أزمة مالية مؤقتة، أم تواجه كارثة اقتصادية تعجز عن التصدي لها في ظل المعطيات الداخلية والخارجية؟ أم أنها على شفا انهيار اقتصادي لا شك فيه بعد 40 عاما من السياسات الاقتصادية التي جمعت مزيجا من الاضطراب والخلل والفساد؟
إضافة إلى هذه التساؤلات، هل الأمر لا يتجاوز وعكة اقتصادية سيخرج منها نظام الملالي معافى، وإن أصيب ببعض الندوب هنا وهناك، ليعيد ترتيب أوراقه ومواصلة تصدير ثورته واستنزاف ثروته؟
يعتمد الاقتصاد على علم الأرقام والمقارنات بين فترات زمنية مختلفة، وانعكاساتها على المواطن ملموسة ومباشرة، يتجلى ذلك في مستويات المعيشة والأسعار ومدى توافر السلع والخدمات وحجم الوظائف المتاحة خاصة للشباب، ومدى السيولة النقدية المتوافرة، والجاذبية الاقتصادية للاستثمارات المحلية والدولية، وحجم العجز أو الفائض في الميزانية، ووضع الميزان التجاري، وإجمالي الصادرات ونوعيته في مواجهة الواردات.
جميع تلك العوامل تجعل من الصعب دائما على أي نظام مهما بلغ قمعه لأصوات معارضيه، ومهما تحايل واستخدم الأكاذيب الإعلامية، وبنى أساسه ورسخه على خليط من طائفية حاقدة ونزعات قومية متعصبة، أن يواصل خداع شعبه لأعوام وأعوام. ولحظة الحقيقة تأتي ولو متأخرة، وغالبا ما تتجلى وتنكشف عندما يصطدم النظام بحائط سد من الإخفاقات الاقتصادية والفشل الذريع في إدارة موارد البلاد بعد أن استنزفها في كل شيء إلا في مصلحة أبناء شعبه.
ماذا تقول الأرقام عن الاقتصاد الإيراني؟ وفقا لتقرير البنك الدولي عن إيران الذي صدر قبل أيام، فإن الاقتصاد الإيراني تقلص بنسبة 8.7 في المائة في عام 2019 مقارنة بعام 2018، وكان الناتج المحلي الإجمالي لإيران قد انخفض بنسبة 4.9 في المائة عام 2018 مقارنة بالعام الذي سبقة، وفقا لتقديرات البنك.
ماذا عن المستقبل؟ لا تصب التقديرات بأي حال من الأحوال في مصلحة النظام الإيراني، فالنمو الاقتصادي سيكون "صفر" في المائة هذا العام و1 في المائة عامي 2021 و2022.
ويؤكد الدكتور بيركين وايت الاستشاري في عدد من المؤسسات الاقتصادية المعنية بالاقتصادات الناشئة، أن النظام الاقتصادي الإيراني يدخل ضمن مجموعة النظم الاقتصادية الفاشلة على غرار فنزويلا.
ويقول لـ"الاقتصادية"، "إن الإهدار المفرط للموارد الوطنية إحدى السمات المميزة للاقتصادات الفاشلة مثل إيران وفنزويلا، فتلك الدول تتمتع بإمكانيات اقتصادية ضخمة، سواء تعلق الأمر بالثروات الطبيعية مثل النفط والغاز، أو بكتلة سكانية شابة قادرة على الإنتاج والعطاء، مع هذا فإن مستويات المعيشة في تلك الدول في تراجع مستمر جراء تبني منظومة اقتصادية غير منتجة".
ويضيف "لا شك أن العقوبات الأمريكية لها تأثير خانق وقاتل في الاقتصاد الإيراني، لكن حجر الأساس في الكارثة الاقتصادية التي تواجهها إيران حاليا يكمن في فشل النظام خلال أربعة عقود في تعظيم الاستفادة من إمكاناته الاقتصادية، سواء لخلل في سلم الأولويات أو للفشل في إدارة موارد الدولة".
ويشير إلى أن المشكلة تكمن في العقوبات الجديدة للإدارة الأمريكية ضد النظام الإيراني التي ستضغط بقوة على قنوات التجارة والتمويل التي مكنت النظام من البقاء على قيد الحياة حتى الآن، إذ استهدفت العقوبات بعضا من أكبر شركات تصنيع المعادن في إيران، وتم إصدار أمر تنفيذي أمريكي ينال من قطاعات البناء والتعدين والتصنيع والمنسوجات الإيرانية، ويمكن لوزارة الخزانة الأمريكية الآن وضع قائمة سوداء بأي فرد أو كيان يعمل مع تلك القطاعات أو يساعدها، ونتيجة ذلك أدرجت واشنطن ثلاث شركات مقرها الصين وسيشل على قائمة الشركات التي ستتعرض لعقوبات أمريكية، حيث إن تلك الشركات متهمة بشراء المعادن الإيرانية المحظورة.
ويعتقد البعض أن تلك العقوبات ستزيد الوضع الاقتصادي في إيران مأساوية خاصة، إذ إن أغلب الشركات الكبرى متعددة الجنسيات قطعت تعاملاتها مع إيران.
وتعد الباحثة الاقتصادية كيلي فاولر أن أبرز سمات الإخفاق في النظام الاقتصادي الإيراني، يكمن في فشل نظام الملالي - خلال أربعة عقود من الهيمنة المطلقة على المنظومة الاقتصادية - في تطويرها خارج بوتقة الاعتماد على النفط والغاز، مشيرة إلى أن اقتراب الأوضاع من الانهيار الكلي في إيران يكمن في هذا الجانب.
وتقول لـ"الاقتصادية"، "إن الانكماش الاقتصادي الذي تعرضت له إيران العام الماضي يرجع في الأساس إلى الصدمات الخارجية التي عاناها قطاع النفط والغاز، وسيزداد الوضع سوءا خلال الفترة المقبلة، بعد انتهاء الإعفاءات الأمريكية لمستوردي النفط الإيراني، وسلسلة العقوبات الأمريكية الأخيرة، والقيود المفروضة على تجارة إيران الخارجية وتدفقات رأس المال الأجنبي، التي تجاوزت آثارها القطاع النفطي، لتطول القطاعات الرئيسة غير النفطية، مثل قطاع البناء والسيارات، الذي يقف على شفا الانهيار، نتيجة الصعوبات التي تواجهها سلسلة التوريد وارتفاع تكلفة الإنتاج".
ويشير البنك الدولي إلى أن قطاع الإسكان سجل في أغسطس الماضي أدنى حجم للمبيعات في ستة أعوام وارتفعت الأسعار بنسبة 78 في المائة.
ويتوقع خبراء البنك الدولي أن يواجه قطاع الخدمات الإيراني - أكبر قطاع اقتصادي يسهم في الناتج المحلي الإجمالي، وبلغت حصته 56 في المائة عام 2017 - 2018 - مزيدا من الركود في الفترة المقبلة.
ويترافق ذلك مع توقعات بانكماش الاستهلاك الحقيقي للمؤسسات الحكومية بمعدل يتجاوز 5.4 في المائة.
ويعتقد البروفيسور فريهاد علي الخبير الاقتصادي الإيراني وأستاذ الاقتصاد السابق في جامعة طهران، أن التحدي الأكبر الذي يمكن أن يؤدي إلى انهيار حكومة روحاني سينجم عن الخلل المالي المتفاقم.
ويقول لـ"الاقتصادية"، "سيتفاقم العجز المالي إلى 5.4 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في الفترة بين 2019 و2020، حيث إن أكثر من 30 في المائة من عائدات الميزانية العامة يأتي من النفط والغاز، ونتيجة تراجع الصادرات لن يكون أمام السلطات الحكومية غير فرض مزيد من القيود على الواردات، وهذا يعني ارتفاع تكلفة الإنتاج محليا، وتراجع مستويات المعيشة نتيجة تراجع القدرة الشرائية، لارتفاع الأسعار".
ويوضح، أنه لتفادي مزيد من الاضطرابات الاجتماعية، سيضطر النظام إلى ضخ مزيد من المساعدات للطبقات الفقيرة في شكل إعانات اجتماعية، التي ستأتي في وقت تتراجع فيه العائدات النفطية، والعوائد الضريبية أيضا بسبب تقلص التوسع الاستثماري في البلاد.
ويضيف "هذا الوضع كان يمكن للنظام الإيراني استيعابه والتعامل معه إذ كانت معدلات البطالة منخفضة، لكن معدل البطالة الراهن يبلغ رسميا 17 في المائة، والأرقام غير الرسمية تصل إلى 25 في المائة، وبين قطاع الشباب تتجاوز البطالة 30 في المائة، ما يوجد أرضية قوية للاحتقان الاجتماعي، خاصة مع ارتفاع تكاليف المعيشة".
ويقول "يفسر ذلك الوضع الرغبة العارمة التي تجتاح قادة الحرس الثوري في تحويل المعركة من الساحة الاقتصادية إلى الساحة العسكرية، حيث يمزق التدهور الاقتصادي النسيج المجتمعي، ويؤدي إلى تفشي عديد من القيم الاجتماعية السلبية، أبرزها فقدان الثقة بالنظام وأيديولوجية الولي الفقيه، وتنامي حالات العصيان الاجتماعي وتحدي السلطة".
بالطبع يسعى النظام إلى وقف الانهيار الاقتصادي بأي شكل من الأشكال، ولهذا حافظ البنك المركزي الإيراني على سعر صرف ثابت قدره 42 ألف ريال إيراني لكل دولار أمريكي، لكن تلك المحاولات لم تحقق إنجازا يذكر، في ظل بلوغ قيمة العملة الإيرانية في السوق السوداء 140 ألف ريال لكل دولار وفقا لموقع Bonbast .com الإلكتروني الخاص بالعملات الأجنبية.
وتسبب انهيار العملة الإيرانية في ارتفاع مستوى التضخم وبلغ ذروته في مايو الماضي 50 في المائة، ما رفع تكاليف المعيشة وزيادة معدلات البؤس.
وتشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن إيران تحتل المرتبة 98 في العالم من حيث الفجوة في الدخل من بين 152 دولة. ووفقا لبيانات مركز الإحصاء الإيراني الرسمي فإن متوسط القدرة الشرائية للإيرانيين انخفض بنسبة 43 في المائة مقارنة بالعام الماضي.
من جهتها، تقول لـ"الاقتصادية"، الدكتورة إيفلين كوك الاستشارية في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، "الاقتصاد الإيراني يتمتع بعديد من المقومات والمزايا الاقتصادية القادرة على النهوض به سريعا وتحقيق معدلات نمو مرتفعة، لكن عجلة الاقتصاد الإيراني توقفت عن الدوران منذ أعوام، بل والآن تعود إلى الخلف".
وتعتقد الدكتورة إيفلين أن الأمر لا يقف عند حدود السياسات الاقتصادية غير المنضبطة أو انعدام الكفاءة الإدارية في المناصب العليا في الدولة، إنما تشير إلى الفساد وانحصار مقدرات النظام الاقتصادي في أيدي مجموعة محددة من الأشخاص سواء من مكتب خامنئي أو الحرس الثوري، التي تدير الشأن الاقتصادي على أسس سياسية، تعمل على تركيز احتكار الثروة الوطنية في أيدي أشخاص محددين يعملون على إيجاد ظروف عمل اقتصادية تبتعد عن المنافسة، لضمان مواصلة تربحهم من الاقتصاد الريعي الإيراني.