أدب العزلة .. شرف أن تكون وحيدا
قدمت العزلة للعالم روائع أدبية فريدة، حفظها التاريخ على مر الأجيال، على اختلاف مسبباتها، اختيارية كانت أم إجبارية، كتلك العزلة التي يعيشها العالم اليوم، إثر جائحة "كورونا"، التي أوجدت أزمات على المستويات كافة، ويواجهها المبدعون بنصوصهم ويومياتهم من داخل معتزلهم
إدمان العزلة
يفرق الأدباء والمثقفون بين مصطلحي الوحدة والعزلة، فالفيلسوف الألماني بول تيليش يرى، أن اللغة ابتكرت كلمة الوحدة لوصف، "ألم أن تكون وحيدا"، وابتكرت كلمة العزلة لتصف، "شرف أن تكون وحيدا". في الوقت الذي يعدد فيه المبدعون فوائد لا تحصى للعزلة، منها التحليق بعيدا واكتشاف المجهول، والاستراحة من أعباء الحياة، والتعبير عما يخالج النفس والتجارب الحياتية بالكتابة.
وإذا ما ذكرت فوائد العزلة، لا عجب أن الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش أدمنها، ففي أحد حواراته كشف أنه أدمن العزلة، في حين يشكو كثير من الناس منها، ويقول عنها، "ربيتها وعقدت صداقة حميمة معها، فالعزلة هي أحد الاختبارات الكبرى لقدرة المرء على التماسك، وأشعر بأنني إذا فقدت العزلة فقدت نفسي".
كما كتب في يومياته "أثر الفراشة": "في العزلة كفاءة المؤتمن على نفسه.. العزلة هي انتقاء نوع الألم، والتدرب على تصريف أفعال القلب بحرية العصامي.. تجلس وحدك كفكرة خالية من حجة البرهان، دون أن تحدس بما يدور من حوار بين الظاهر والباطن.. العزلة مصفاة لا مرآة ترمي ما في يدك اليسرى إلى يدك اليمنى، ولا يتغير شيء في حركة الانتقال من اللافكرة إلى اللامعنى، لكن هذا العبث البريء لا يؤذي ولا يجدي: وماذا لو كنت وحدي؟ العزلة هي اختيار المترف بالممكنات، هي اختيار الحر، فحين تجف بك نفسك، تقول: لو كنت غيري لانصرفت عن الورقة البيضاء إلى محاكاة رواية يابانية، يصعد كاتبها إلى قمة الجبل ليرى ما فعلت الكواسر والجوارح بأجداده الموتى، لعله ما زال يكتب، وما زال موتاه يموتون، لكن تنقصني الخبرة والقسوة الميتافيزيقية وتقول: لو كنت غيري".
وتعد العزلة أرضا للإبداع كما يرى جل المفكرين والأدباء، فالألماني نيتشه يقول "إن العزلة ضرورية لاتساع الذات وامتلائها، فالعزلة تشفي أدواءها وتشد عزائمها"، والروائي كافكا أكد على، أن العزلة طريقة للتعرف على أنفسنا.
وربط الشاعر والفيلسوف البرتغالي بيسوا بين الحرية والعزلة، حينما قال، "الحرية هي امتلاك إمكانية العزلة"، أما وصفة جبران خليل جبران لمن مل عزلته فكانت، "إذا شعرت بالحاجة إلى يد دافئة فامسك بيدك الأخرى، فلن يهزم شخص يؤمن بنفسه".
العزلة تصنعك
"العزلة مهمة ولبعض الناس هي الهواء الذي يتنفسونه".. هكذا وصفت الكاتبة الأمريكية سوزان كين أهمية العزلة، وكتب فيها الأديب السعودي رشاد حسن في كتابه "حين رأيت صوتي" بأنها تصنع الإنسان، فكتب عنها "العزلة تصنعك، والوحدة تربيك، إنني لم أكن هكذا، لكن وحدتي صنعتني، وإذا أردت أن تحس بقيمتك، فعليك أن تبقى وحيدا، الوحدة نزاهة الروح، العزلة صديقك الحميم، ومعلمك القريب، والغريب الذي تأمنه، والمسعف الذي يستعد لإنقاذك من الخطر".
ويسهب حسن بوصفه الخيالي للعزلة "العزلة معبدك، دورك أن تذهب إلى هناك وتعتكف داخلها، تفسخ هذه الروح المتسخة منك، وتطهرها، تقف صفا إلى صف أمام ذاتك، تنقيك من كل ضعف وخطيئة، تنزع ما علق من الذكريات وتغسلها، تمنح ذاتك الوقت الكافي لتبقى حيا في ظل هذا الجسد الذي أرهقته السنين".
وزاد في وصف حسناتها بلال البخاري، حينما قال "ويسألونك عن حب العزلة قل هي راحة من غيبة وفرار من نميمة، ورحمة بالفؤاد من خذلان، ودرء من سقطات اللسان، ورحمات من القيل والقال".
بداية الحكمة
توصف العزلة بأنها بداية الحكمة، ووصفها آخرون ببداية الجنون، ومنها بالطبع خرجت الروائع الأدبية نثرا وشعرا، لتذكر بأهم عزلة شهدتها البشرية، وكانت خلوة النبي المصطفى - صلى الله عليه وسلم - بنفسه، حينما كان ينفرد بذاته، يتفكر ويتأمل. العزلة حملت في داخلها عطايا للكاتب والمفكر مصطفى محمود، والمتتبع لسيرته يعلم أن محمود أصابه مرض في الصدر خلال عامه الدراسي الثالث في كلية الطب، ما اضطره لعزل نفسه في غرفة لثلاثة أعوام، أتاحت له قراءة الأدب العالمي والقصة والمسرح، وجعلت منه هذه العزلة مفكرا وكاتبا ومثقفا.
وفي مغارة جزائرية، تقع في مدينة فرندة غربي العاصمة، ولدت مقدمة ابن خلدون، ومن دمشق، أرسل الإمام ابن تيمية رسائله، من عزلته بجانب أسوار المسجد الأموي.
كما درجت العادة منذ العصر الجاهلي أن يختار الشعراء العزلة لكتابة أشعار، ونظموا أجمل الأبيات فيها، حتى وصفها الشاعر العربي صفي الدين الحلي ببيته الشهير،
وأطيب أوقاتي من الدهر خلوة
يقر بها قلبي ويصفو بها ذهني.
حاجة مثل الماء والهواء
المفكر اللبناني ميخائيل نعيمة في سيرته "سبعون"، وصف عزلته بأشد الأوصاف وقعا حين قال، "حريص كل الحرص على عزلتي، فالعزلة حاجة في نفسي مثلما الخبز والماء والهواء حاجة في جسدي، ولا بد لي من ساعات أعتزل فيها الناس لأهضم الساعات التي صرفتها في مخالطة الناس".
ويتفق معه الشاعر العراقي عبدالعظيم فنجان، الذي قال، "لا تسألني كيف وجدت العزلة؟ اسأل العزلة: كيف وجدتني؟".
أما الروائي الروسي دوستويفسكي، فوصف العزلة بأنها نضج، وكتب "مشكلتنا يا صديقي.. كلما نضج العقل فضلنا الانعزال والوحدة"، وكتب في سياق آخر، أن العزلة زاوية صغيرة يقف فيها المرء أمام عقله.
تلك العزلة الموحشة في بعض الأحيان، لم تمنع الروائي الأمريكي إرنست همينجوي من وصفها بأنها وطن للأرواح المتعبة، والفكرة ذاتها جسدها الشاعر الإسباني رافائيل ألبرتي حينما كتب "أنت في وحدتك بلد مزدحم".
أمل وتفاؤل
ولمواصلة مسيرة أدب العزلة، وما يتمخض عنه من روائع، أطلقت هيئة الأدب والنشر والترجمة مبادرة أدب العزلة، تحفيزا للمبدعين وتشجيعا لمشاركة إنتاجاتهم الأدبية والإبداعية من قصص وروايات ويوميات ونصوص شعرية تبدع في فترة العزل الوقائي، بسبب فيروس "كورونا".
وتهدف المبادرة الأدبية إلى إيجاد حالة من التفاعل المجتمعي على وسائل التواصل الاجتماعي، تبث روح الأمل والتفاؤل لمواجهة "كورونا"، واكتشاف مواهب أدبية تثري المشهد الأدبي، وتوظيف العزلة في إنتاج مشروع أدبي لتوثيق الأحداث الحالية، التي تعد فرصة للاختلاء بالذات والتعبير عن المشاعر ومحاورة الأفكار.