الصين تدشن دبلوماسية الجائحة .. طواقم طبية ومعدات لنجدة الضحايا
قبل شهر واحد فقط، كانت الصين تترنح تحت تأثير وباء فيروس كورونا أو جائحة العصر، على ما كان يبدو. كان اقتصاد الصين في حالة تراجع، وكان الطبيب لي وينليانج المبلغ الذي أطلق صافرة الإنذار، عن فيروس غريب يحصد الأرواح في منطقة ووهان، قد أشعل ثورة على الإنترنت ضد السلطات الشيوعية في الصين.
مدى سرعة تغير الوضع ظهرت مع نداء رئيس صربيا ألكسندر فوتشك، فمع تصنيف الفيروس الآن كجائحة وانتقال مركزها من آسيا إلى أوروبا، إذ أطلق نداء عاما كان بمنزلة قوة دفع دعائية تحتاج إليها بكين بشدة.
مشيرا إلى "الصداقة القوية كالفولاذ منذ عقد من الزمن" بين صربيا والصين، طلب رئيس صربيا من "شقيقه وصديقه" تشي جين بينج نظيره الصيني المساعدة على مكافحة هذا المرض.
نقل عن فوتشك قوله: "أطلب منك إرسال أي شيء يمكنك إرساله. نحن بحاجة إلى كل شيء من الأقنعة والقفازات إلى أجهزة التنفس الاصطناعي، حرفيا كل شيء، والأكثر أهمية من ذلك كله نحتاج إلى معرفتكم، وكذلك الأشخاص الذين سيكونون على استعداد للمجيء إلى هنا لتقديم المساعدة".
هذا تماما ما كانت الصين تتطلع إليه - فرصة للبدء في إعادة صياغة دورها من دور الدولة التي سرعت انتشار الفيروس من خلال عمليات التغطية، إلى دور القوة العالمية الهائلة التي تقدم القيادة في وقت الذعر والخطر، لكثير من بقية العالم.
يقول يو جي، باحث أعلى لشؤون الصين في مؤسسة تشاتام هاوس الفكرية البريطانية: "تحاول الصين تحويل أزمتها الصحية إلى فرصة جغرافية سياسية، فهي تطلق حملة قوة ناعمة تهدف إلى ملء الفراغ الذي خلفته الولايات المتحدة".
يقول المحللون إن هدف حملتها الدعائية في الغالب، هو إصلاح الضرر الجسيم الذي أحدثه الوباء - الذي نشأ في الصين - بسمعتها في الداخل والخارج.
الصين عازمة على إظهار نفسها كقوة مسؤولة، تماما كما فعلت في أعقاب الأزمة المالية لعام 2008، عندما ساعد التحفيز الاقتصادي في بكين على رفع الطلب العالمي.
هذه المرة تعرض أيضا ميزة أصعب بكثير. بينما نسقت بكين في عام 2008 جهودها مع الولايات المتحدة، تخلط الصين الآن تبرعاتها الإنسانية إلى الدول الأكثر تضررا بخطابات طويلة لاذعة ضد الولايات المتحدة.
الانطباع المعطى هو انطباع عن قوة عظمى صاعدة تحاول تصوير المسؤول الحالي عن الأزمة، باعتبارها الأمة الأكثر أهمية.
في حين أن الرئيس الأمريكي دونالد ترمب يطلق لسانه اللاذع بشأن "الفيروس الصيني"، فيما يكافح الانتقادات وانهيار السوق في الداخل، تطلق الصين برنامجا سريعا لدبلوماسية الجائحة، حظيت بعناوين رئيسة في جميع أنحاء العالم، بسبب أعمالها الجيدة في أوروبا وإفريقيا وأماكن أخرى.
بكين لديها شيء كثير لتعويضه. كثير من الناس في جميع أنحاء العالم يلقون باللوم على الصين، بسبب عدة خطوات خاطئة ساعدت على جعل الفيروس جائحة قوية التهديد.
على أنه مع بدء اقتصادها في الانتعاش بعد ثلاثة أشهر كارثية، تصبح أسواقها المالية ملجأ لرأس المال العالمي المتقلب، هناك فرصة أن ينتهي الأمر بتعزيز بكين مكانتها الدولية - وهو أمر ما كان من الممكن تصوره قبل شهر.
تعتمد حركة الصين على ادعائها أنها أوقفت انتشار الفيروس محليا. على الرغم من الشكوك بشأن دقة الإحصاءات الرسمية، إلا أن عدد المصابين حديثا بفيروس كورونا كل يوم انخفض إلى بأرقام من خانتين أخيرا.
في دول مثل إيطاليا وإسبانيا وإيران وألمانيا، يبلغ عدد الحالات الجديدة أكثر من ألف حالة يوميا. الانطباع أن الصين بدأت تتحسن تعززه البيانات الاقتصادية. مؤشر النشاط الاقتصادي الصيني الذي جمعته صحيفة "فاينانشيال تايمز" لتتبع التقدم الذي تحرزه الدولة في العودة إلى العمل، يظهر ارتفاعا ثابتا في مجالات مثل العقارات المبيعة، واستهلاك الفحم في محطات توليد الكهرباء وازدحام حركة المرور.
مع ذلك لا يزال الدخول إلى السينما، وهو مؤشر للطلب الاستهلاكي، ضعيفا جدا. إذا تمكنت الصين من تجنب موجة وباء ثانية، فمن المحتمل أن تصبح أول دولة كبرى تتعافى من الوباء.
يتوقع معظم الاقتصاديين الآن انكماشا غير مسبوق في الناتج المحلي الإجمالي خلال الربع الأول من العام، يليه انتعاش حاد في الربع الثاني.
على سبيل المثال، يتوقع لويس كويجس، رئيس اقتصاديات آسيا في وكالة أكسفورد إيكونوميكس في هونج كونج، انتعاشا 8 في المائة للربع الثاني، عن فترة الأشهر الثلاثة السابقة.
إذا تحقق مثل هذا النمو فيمكن أن تصبح الصين بمنزلة مثال نادر للنمو في عالم تعصف به أزمة اقتصادية، ما يعزز جاذبية القوة الناعمة فيها، ويمنحها المجال للتدخل نيابة عن الدول المنكوبة التي تطلب المساعدة، مثل صربيا.
"بما أن اقتصاد الصين الذي يعتمد على الطلب المحلي من المقرر أن ينتعش والمستثمرون في البر الرئيس يتجنبون الذعر الذي ضرب الأسواق الغربية، فإن اقتصادها يمكن أن يدعم النمو العالمي ويوفر ملاذا آمنا للمستثمرين"، كما يقول آنديروثمان، خبير استراتيجية الاستثمار في صندوق ماثيوز للاستثمار.
احتمال الحصول على مثل مكانة "الملاذ الآمن" هذه لا يبدو بعيد المنال.
المستثمرون في الخارج ضخوا 90 مليار رنمينبي (13 مليار دولار) في سوق السندات الحكومية والأوراق المالية، في حسابات مصارف الصين في العام حتى نهاية شباط (فبراير) الماضي، وذلك وفقا لأرقام من الشركة التي تدير خطة تداول السندات في هونج كونج مع البر الرئيس - وتسارعت التدفقات الداخلة أكثر في آذار (مارس) الماضي، كما قال المتداولون.
وبذلك وصل إجمالي الملكية الأجنبية لسندات الرنمينبي السيادية إلى مستوى قياسي بلغ 2.27 تريليون رنمينبي (324 مليار دولار)، وذلك وفقا لشركة بوند كونيكت.
يقول هايدن بريسكو، رئيس قسم الدخل الثابت لمنطقة آسيا والمحيط الهادئ في بنك يو بي إس لإدارة الأصول: "لن يتوقف المستثمرون العالميون عن التراكم. إنهم بحاجة إلى سوق آمنة توفر لهم بالفعل عوائد اسمية".
تختلف الآراء حول ما إذا كانت بكين، التي تواجه انكماشا حادا في النمو في الربع الأول، ستطلق حزمة تحفيز مثل تلك التي أعادت الاقتصاد العالمي إلى النمو في أعقاب الأزمة المالية لعام 2008.
يعتقد بعض المحللين أن مستويات الديون المرتفعة في الصين تستبعد مثل هذا الخيار، لكن آخرين مثل روثمان يعدون مثل هذه الحزمة احتمالا مؤكدا.
يقول: "ليس لدي شك أنه إذا فشل الاقتصاد المحلي بإظهار علامات واضحة على الصحوة في نيسان (أبريل) الماضي، فإن الحكومة ستتدخل مع بعض التدابير القوية التي نشرت خلال الأزمة المالية. أسعار الفائدة في الصين مرتفعة نسبيا، لذلك هناك مجال لخفضها وهناك مجال لتكثيف بناء البنية التحتية".
مع تعافي اقتصادها، تتمتع بكين بالحرية لتقديم المساعدة إلى الدول المتضررة - ولن تنسى أن تشغل موسيقى امتنان تلك الدول على أسماع الجماهير المحلية في الصين.
في حالة صربيا، على سبيل المثال، قال مسؤولون صينيون إن نحو 300 مليون صيني شاهدوا مقطع فيديو يقول فيه فوتشك إنه من دون "إخواننا الصينيين"، ستكون صربيا غير قادرة على الدفاع عن نفسها ضد الفيروس.
إلى حد كبير لم تكن صربيا هي المتلقي الوحيد للنوايا الحسنة الصينية. في محادثة هاتفية الأسبوع الماضي، الرئيس تشي أخبر بيدرو سانشيز، رئيس الوزراء الإسباني، أن الصين ستبذل قصارى جهدها لتقديم الدعم. وأضاف أن: "أشعة الشمس تأتي بعد العاصفة" مشيرا إلى أنه ينبغي للدولتين تعزيز التعاون بعد انتهاء الوباء.
إيطاليا التي عانت أكثر من ستة آلاف حالة وفاة - وهي حصيلة أعلى من الصين - ناشدت جيرانها في الاتحاد الأوروبي هذا الشهر لإرسال كمامات الوجوه للعاملين في المجال الطبي.
الصين هي التي تقدمت أولا، حيث أرسلت الكمامات وأجهزة التنفس الاصطناعي، و300 طبيب مختصين في العناية المركزة لدعم المستشفيات المكتظة في إيطاليا. لويجي دي مايو، وزير الخارجية الإيطالي، قال الأسبوع الماضي: "سوف نتذكر الذين كانوا قريبين منا في هذه الفترة الصعبة".
من خلال مشاهدة المثال الصيني، حذت روسيا أيضا حذوها، حيث أعلنت أنها سترسل طائرات محملة بالأدوية ولوازم المستشفيات إلى إيطاليا.
الصين أطلقت مبادرات مماثلة - من خلال توريد المعدات الطبية والمشورة، وفي بعض الحالات الموظفين - إلى عدة دول أخرى في أوروبا وإفريقيا والشرق الأوسط.
وذكرت وكالة شينهوا للأنباء الصينية الرسمية أن كل دولة من الدول الإفريقية البالغ عددها 54 ستتلقى 20 ألف صندوق من أدوات الاختبار، و100 ألف كمامة وألف بدلة واقية للاستخدام الطبي من مؤسسة جاك ما، وهي منظمة خيرية بقيادة أغنى فرد في الصين والرئيس السابق لمجموعة علي بابا.
سارع الرئيس تشي بربط مثل هذه الجهود الأسبوع الماضي بمبادرة الحزام والطريق، وهي سياسته المميزة لكسب النفوذ في جميع أنحاء العالم من خلال بناء البنية التحتية. ونقل عنه قوله لرئيس الوزراء الإيطالي، جيوسيبي كونتي، عبر الهاتف إن بكين مستعدة للمساهمة في "طريق الحرير الصحي" - في إشارة واضحة إلى حقيقة أن إيطاليا هي الدولة الوحيدة في مجموعة السبعة، التي سجلت في مبادرة الحزام والطريق.
يقول جوشوا كورلانتزيك، زميل أول في مجلس العلاقات الخارجية، وهو مؤسسة فكرية أمريكية، "تحاول الصين الآن الاستفادة فيما يتعلق بالقوة الناعمة".
بينما تصور نفسها كمنقذ، تؤكد الصين أيضا على اختلاف واضح بين هذه الأزمة والأزمات العالمية السابقة: بكين تخوضها وحدها، دون أي إشارة إلى أي تعاون أمريكي.
حتى في عام 2014، عندما اجتاح فيروس إيبولا غربي إفريقيا، الذي أسفر عن مقتل ما لا يقل عن عشرة آلاف شخص، تعاونت الصين والولايات المتحدة بشكل وثيق.
وذكر تقرير صادر عن مركز كارتر أن الصينيين والأمريكيين عملوا جنبا إلى جنب في المختبرات في سيراليون، وفي المطار لتفريغ لوازم الحالة الطارئة.
كما انضمت بكين وواشنطن أيضا إلى جهود الإغاثة في أعقاب تسونامي جنوب شرقي آسيا في عام 2004. بعد الأزمة المالية لعام 2008، اتفقت الدولتان على أسبابها واتخذا تدابير مشتركة لتعزيز الطلب العالمي. كان برنامج التحفيز الذي بقيمة 586 مليار دولار من الصين في عام 2009 ، هو الذي ساعد على إخراج العالم من الانكماش.
بعد أعوام من الخلافات التجارية، الأمور هذه المرة مختلفة تماما، كما يقول ريان هاس، مسؤول كبير سابق في البيت الأبيض ووزارة الخارجية، الذي يعمل الآن في مؤسسة بروكنجز الفكرية.
يقول هاس: "انتشار فيروس كورونا وضع مرآة أمام العلاقة الثنائية، وصورة الصين التي ظهرت كانت بشعة. الآن، القادة في كلتا الدولتين يستهلكهم الجدل حول مكان ظهور الفيروس، ومن المسؤول عن انتشاره بدلا مما يجب فعله بشكل جماعي، لوقفه".
أوضح مثال لما يدعوه هاس "دوامة الهبوط" في العلاقات بين الولايات المتحدة والصين، جاء في جدل مرير حول الاسم الذي سيطلق على وباء فيروس كورونا. أطلق ترمب عليه مرارا وتكرارا "الفيروس الصيني"، ما أثار "استنكارا قويا" من وزارة الخارجية الصينية.
لم تمض الأمور دون استفزاز ترمب. تشاو ليجيان، المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية، دفع نظريات - دون تقديم أدلة داعمة - أن الفيروس قد يكون مؤامرة دبرها الجيش الأمريكي.
تم تكرير هذا الادعاء من قبل وسائل الإعلام الرسمية في الصين والسفراء الصينيين في جميع أنحاء العالم، على الرغم من أن كوي تيانكاي، السفير الصيني لدى الولايات المتحدة، بدا أنه ينأى بنفسه عن هذا الادعاء.
وسائل الإعلام الرسمية في الصين التي لم تكتف ببدء حرب كلامية مع الرئيس الأمريكي، بل زعمت أيضا أن نظام الحكم الاستبدادي فيها أكثر ملاءمة للتعامل مع تفشي الفيروس من الأنظمة الديمقراطية، على الرغم من أن هذا يتجاهل أداء تايوان وكوريا الجنوبية، اللتين أوقفتا انتشار الفيروس بطريقة أكثر فاعلية بكثير من الصين. يقول المحللون إن مثل هذه الخطوات تقوض توقعات القوة الناعمة التي تهدف إليها بكين.
يقول هاس: "ستكافح الصين لإقناع العالم بأنها قوة كبيرة حميدة تأتي لمساعدة المحتاجين، في الوقت نفسه الذي تدفع فيه نظريات مؤامرة على الهامش.
سيكون من الحكمة أكثر أن تسمح بكين لمساعدتها للآخرين بالتحدث عن نفسها، لكن من غير الواضح ما إذا كان لديها الانضباط لفعل ذلك في الوقت الحالي".
مينكسين بي، الأستاذ في كلية كليرمونت ماكينا في لوس أنجلوس يقول إن الإجراءات التي اتخذتها الصين أخيرا، بما في ذلك طرد الصحافيين الأمريكيين هذا الشهر، جعلت التعاون المحتمل مع الولايات المتحدة لمكافحة الفيروس، أكثر صعوبة.
واستطرد أنه: "بدلا من الترويج لتفوق نظام الحزب الواحد فيها، يحسن بالصين أن تكون زعيمة عالمية سخية تشارك مواردها ولوازمها الطبية مع دول أخرى، خاصة الدول النامية التي هي بحاجة شديدة إلى المساعدة".
ومهما كانت الشهرة التي ستنالها الصين من مبادراتها الإنسانية، ستوضع مقابل خطواتها الخاطئة المبكرة وعملية التغطية.
ويضيف: "تحقق تقدمها بتكلفة باهظة. بما أنه يمكن القول إن الصين كان بإمكانها منع التفشي في المقام الأول، لو كان لديها نظام أكثر شفافية وحرية أكبر للصحافة، يمكن أن تحاول بكين الإشارة إلى نجاحها كدليل على قدرات نظامها السياسي، لكن لن يصدق ذلك كثير من الناس خارج الصين".
من الواضح أن الوباء يضاعف الصدوع العميقة في العلاقة بين الولايات المتحدة والصين، التي تراجعت إلى أدنى حد منذ مذبحة المتظاهرين المؤيدين للديمقراطية في عام 1989 في ميدان تيانانمين في بكين.
يقول بيل بيشوب، خبير الصين المقيم في واشنطن ومؤلف نشرة سينوسيزم الإخبارية إن العلاقة تقترب من "حافة هاوية".
المزيج السام من الانكماش الاقتصادي في الولايات المتحدة والصين، ولد ظاهرة القوميين والقادة السياسيين الذين يحاولون إلقاء اللوم على خصم من الخارج، لديه القدرة على تعميق الأزمة والجراح، على حد قوله. كتب بيشوب الأسبوع الماضي: "مذبحة الجائحة، بالكاد بدأت في الولايات المتحدة".