الذكاء الإنساني .. قصص في مديح فطنة العرب
في غمرة الانتشاء بمنجزات الذكاء الاصطناعي، في وقت تعدم فيه البشرية حتى الآن إجماعا حول تحديد مفهوم الذكاء، فحتى اللحظة "لا نعرف بعد" أصح جواب عن سؤال "ما الذكاء"؟ تبقى هذه الإجابة منطقية بالنظر إلى التقلبات التي شهدها، على مر التاريخ؛ فالذكي عند الإغريق هو الإنسان البارع العقلاني في تفكيره، وفي الحضارة الصينية كان الذكاء رديف الموهبة في الفنون، وظل الأمر على هذه الحال حتى بلغت البشرية بفضل الثورة الرقمية مرحلة الذكاء الاصطناعي.
تجاوزت الأبحاث العلمية المعاصرة الخلاف حول التعريف، نحو البحث عن وسائل لقياس الذكاء، وكان الإحصائي فرانسيس جالتون "1822 /1911" أول من باشر تلك الأبحاث، التي استمرت ستة أعوام، في مختبر خاص في لندن، أسسه 1884 قصد قياس الذكاء، استغل ألفرد بيني عالم النفس التربوي تلك التراكمات، فاهتدى إلى وضع مقياس فعلي للذكاء، تحول على يد العالم لويس تيرمان إلى ما عرف باختبار "ستانفورد- بينيه للذكاء".
توالت الأبحاث تباعا، فظهرت تصنيفات عديدة للذكاء بناء على نتائج التجارب السريرية، وتوزعت بين الذكاء اللغوي والذكاء المنطقي والذكاء العاطفي والذكاء الحركي والذكاء الموسيقي.. ذهب رايموند بيرنارد كاتل عالم النفس الأمريكي إلى تقسيم الذكاء من الناحية السيكولوجية، حيث جمعت هذه الأصناف تحت قسمين كبيرين هما: ذكاء سائل "المنطق، الحساب، التحليل، التنسيق..."، وذكاء متبلور "الخبرة، اللغة، المعرفة، الفكر".
دون الاستغراق في نتائج حصيلة أبحاث علمية، مظان الاختلاف فيما بينها أكثر من الاتفاق، نجد لدى العرب تمييزا واضحا؛ لغويا على الأقل، بين مستويات الذكاء، يكاد يكون أقرب إلى التعبير عن بعض من تصنيفات الذكاء التي خلصت إليها النتائج المخبرية حديثا؛ فالذكاء وخلافه البلادة لا يرادف الدهاء مطلقا، والفطنة ضد الغباء، لا تعني السليقة.
يحفل التراث العربي بمصنفات وكتب تسرد وقائع لنوابغ وأذكياء وعقلاء المجانين، وقصص لضروب من الذكاء، على مر الحقب والعصور. لعل أشهرها كتاب "الأذكياء" للعلامة الحافظ ابن الجوزي، الذي يحكى أنه كان بدرجة عالية من الذكاء، حيث قال للخليفة المستضيء في أحد مجالس وعظه، "يا أمير المؤمنين إن تكلمت خفت منك، وإن سكت خفت عليك. وإن قول القائل لك اتق الله، خير من قوله لك إنكم أهل بيت مغفور لكم".
تحرت العرب الدقة حتى عند الحديث عن أذكيائها، فقالت، "إن أشهر دهاة العرب الكبار أربعة، هم: معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص وزياد ابن أبيه والمغيرة بن شعبة". يروي الأصمعي عن معاوية أنه يقول "أنا للأناة، وعمرو للبديهة، وزياد للكبار والصغار، والمغيرة للأمر العظيم". أما الذكاء فكان المثل يضرب بإياس بن معاوية، حتى قيل "أذكى من إياس بن معاوية وأحلم من الأحنف وأسخى من حاتم وأشجع من عمرو". وفي ذلك قال أبو تمام، وهو يمتدح الخليفة المعتصم، البيت الشهير "إقدام عمرو في سماحة حاتم/ في حلم أحنف في ذكاء إياس". فأراد بعض الحاضرين أن يوقعوا بين أبي تمام والمعتصم، فقالوا، "لقد شبهت أمير المؤمنين بصعاليك العرب". فقال أبو تمام "لا تنكروا ضربي له من دونه/ مثلا شرودا في الندى والباس، فالله قد ضرب الأقل لنوره / مثلا من المشكاة والنبراس".
يتحدث ابن الجوزي في كتابه عن الفقيه والمحدث التابعي عامر الشعبي الذي كانت له ذاكرة قل نظيرها، ويروى عنه قوله عن نفسه "ما كتبت سوداء في بيضاء قط، وما سمعت من رجل حديثا قط، فأردت أن يعيده علي". امتزج ذكاء عامر بروح المفاكهة والمرح، فحين سأله أحدهم يوما؛ في مجلس وعظ بين يدي الخليفة عبدالملك بن مروان، من تكون زوجة إبليس؟ فأجابه "والله هذا عرس ما شهدته".
من طُرف أخبار الأذكياء أن شاعرا كتب إلى أمير المدينة رقعة استجداء، جاء فيها "رأيت في النوم أني مالك فرسا/ ولي وصيف وفي كفي دنانير، فقال قوم لهم علم ومعرفة/ رأيت خيرا وللأحلام تفسير، اقصص منامك في دار الأمير تجد، تحقيق ذاك وللفأل التباشير". ولما قرأها الخليفة كتب في ظهر الرسالة جوابا من سورة يوسف "أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين".
يحكى أن أهل الكوفة تظلموا من عاملها إلى الخليفة المأمون، فقال لهم "ما علمت من عمالي أعدل منه". فقام رجل من القوم فقال له يا أمير المؤمنين "فقد لزمك أن تجعل لسائر البلدان نصيبا من عدله، حتى تكون قد ساويت بين رعاياك في الأمصار، فأما نحن فلا تخصنا منه بأكثر من ثلاث سنين"، فضحك المأمون وأمر بعزل عامله على الكوفة.
يحدث أحيانا أن يقود الذكاء صاحبه إلى التهلكة، فأفتك الأسلحة الكيماوية والقنابل النووية والصواريخ المهلكة للحرث والنسل كان نتيجة ذكاء الإنسان، وهذا ليس بالأمر المستحدث، حيث يروى أن بلال بن أبي بردة كان سجينا لدى الحجاج، وجرت العادة أن ترفع إليه أخبار من مات من محابيسه، فيأمر بإخراج الجثمان، وتسليمه إلى أهله. فقال بلال لسجانه "خذ مني عشرة آلاف درهم، وأخرج اسمي إلى الحجاج في الموتى. فإذا أمرك بتسليمي إلى أهلي هربت في الأرض، فلم يعرف الحجاج خبري، وإن شئت أن تهرب معي فافعل، وعلي غناك أبدا". أخذ السجان المال، ورفع اسمه في الموتى إلى الحجاج، فلما علم بموته قال "مثل هذا لا يجوز أن يخرج إلى أهله حتى أرى". فعاد السجان وقتل بلالا خنقا، حتى لا يفتضح أمره للحجاج. وبذلك اشترى بلال بذكائه القتل لنفسه بعشرة آلاف درهم.
غيض من فيض من الحكايات التي تعيدنا إلى سؤال البداية؛ ألم يكن الإنسان العربي الأول إنسانا ذكيا بالفطرة إذا ما أخضع لاختبارات الذكاء المعاصرة، أليست قوة الذاكرة وحفظ الأشعار والأنساب إحدى صور الذكاء؟ أم أن الذكاء زئبقي لذاته؛ بمعنى أنه يختلف باختلاف العصور والأزمنة، فأعقد العمليات التي كانت من مظاهر الذكاء في الماضي، أضحت اليوم متجاوزة، بفضل تطور علم الحاسوب والبرمجيات، لتبقى الحقيقة الثابتة أن لكل عصر ذكاءه.