الاقتصاد الصيني يسارع في علاج كدمات الجائحة .. والسر في الصناعة

الاقتصاد الصيني يسارع في علاج كدمات الجائحة .. والسر في الصناعة
في العقدين الماضيين، شهدت الصين متوسط نمو اقتصادي يبلغ نحو 9% سنويا.

لم تنج دولة في العالم من تداعيات جائحة كورونا، ولم يفلت اقتصاد أيا كان حجمه أو مساهمته في الاقتصاد العالمي من نتائج تفشي الفيروس، وسياسات الإغلاق التي اتبعها معظم بلدان الكرة الأرضية بدرجات مختلفة، إلا أن المضاعفات وقوتها اختلفتا بطبيعة الحال من دولة إلى أخرى ومن اقتصاد إلى آخر.
مع ذلك فإن الاقتصاد الصيني حظي باهتمام خاص عند بحث التأثير الاقتصادي للجائحة في مختلف دول العالم، لا يعود الأمر إلى أن الصين وتحديدا مدينة ووهان كانت أول بقعة ظهر فيها الفيروس، قبل أن يتمدد وينتشر إلى مختلف أنحاء المعمورة، وإنما الاهتمام منبعه الدور المحوري للاقتصاد الصيني على المستوى الكوني، والتوقعات المتعلقة بأن يتجاوز الاقتصاد الصيني ترتيبه الحالي كثاني أكبر اقتصاد في العالم، ليتبوأ المرتبة الأولى عالميا، مطيحا بالولايات المتحدة من عرشها الذي احتلته لعقود بوصفها أكبر الاقتصادات العالمية قاطبة.
يستمد التساؤل حول مدى تأثير فيروس كورونا في الاقتصاد الصيني، مشروعيته في جزء كبير منه إلى أنها المرة الأولى التي يتعرض فيها الاقتصاد الصيني ومنذ عقود للانكماش، فقد أظهرت التقديرات الرسمية تراجع ثاني أكبر اقتصاد في العالم 6.8 في المائة، ولتلك الخسائر الضخمة تأثيرات تتجاوز بالطبع الصين وتبعث القلق لدى عديد من الدول الأخرى.
فالصين أكبر منتج ومستهلك لعديد من السلع والخدمات، وتعد تلك المرة الأولى التي يشهد فيها اقتصادها انكماشا في الربع الأول منذ 1992، والأكثر أهمية أن الصين وفي خضم حربها التجارية مع الولايات المتحدة شهدت في الربع الأول من العام الماضي نموا اقتصاديا 6.4 في المائة.
في العقدين الماضيين شهدت الصين متوسط نمو اقتصادي يبلغ نحو 9 في المائة سنويا، الا أن هذا المعدل كان محور شك من قبل بعض الخبراء الذين شككوا في دقة البيانات الاقتصادية للصين.
لكن مع تفشي فيروس كورونا في الصين بدا المشهد الاقتصادي لها غير مسبوق، وانتقل الأمر من التشكيك في الأرقام إلى غياب تام للبيانات، اذ أعلنت السلطات الصينية أنها لن تحدد هدفا للنمو الاقتصادي هذا العام، وهذا أمر غير مسبوق في تاريخها، ولم تقم به أي حكومة منذ 1990، وهو العام الذي بدأت فيه السلطات الصينية في الإعلان رسميا عن هدفها بشأن معدلات النمو الرامية إلى تحقيقها.
وهنا عدّ الدكتور هاموند راسل؛ الاستشاري السابق في البنك الدولي، أن القرار الصيني يعكس إدراك السلطات صعوبة تحقيق الانتعاش الاقتصادي في فترة ما بعد فيروس كورونا.
وقال راسل لـ"الاقتصادية" إن الهزة النفسية التي أحدثها تفشي الوباء في مدينة ووهان، أوجد حالة من القلق بين المستهلكين، وعلى الرغم من نجاح السلطات في احتواء الوباء مقارنة بعديد من البلدان الأوروبية والولايات المتحدة، الا أن الحديث عن موجة ثانية من الوباء، والشعور العام بأن الانطباعات الدولية عن الصين وتعاملها مع انتشار الفيروس وغياب الشفافية، يمكن أن ينجم عنها ما يمكن وصفه بتضييق عالمي على الصين، ونفور من التعامل الاقتصادي والتجاري معها، بما يعنيه ذلك من أوضاع اقتصادية مستقبلية صعبة للصينيين، كل هذا يدفع المستهلكين إلى التأني في عملية الإنفاق، والتفكير والتمهل قبل القيام بعمليات الشراء.
وأضاف أن هذا المنطق يتجلى في مبيعات التجزئة التي تكشف عدم نجاح المتاجر في جذب المستهلكين، ففي الشهر الماضي تراجعت المبيعات 7.5 في المائة، وارتفعت البطالة في نيسان (أبريل) ارتفاعات طفيفة عن آذار (مارس)، وبلغت 6 في المائة وبذلك تقترب من الارتفاعات التاريخية.
واستدرك راسل قائلا، إن تلك الأرقام رسمية والبعض يشير إلى أن الأرقام الحقيقية أعلى من ذلك، ويقدرها بعض المؤسسات الدولية بضعف الرقم المعلن، خاصة أن نحو خمس العمال المهاجرين لم يعودوا إلى المدن التي كانوا يعملون فيها، وهذا سيكلف العمال الصينيين المهاجرين ما مجموعه 115 مليار دولار من الأجور المفقودة، ما سيضعف القوى الشرائية في الداخل.
ما يشير إليه الدكتور راسل جزء من مشهد عام يشير إليه بعض الاقتصاديين الصينيين، ويعربون عن مخاوفهم من مزيد من الاهتزازات الاقتصادية في الأشهر المقبلة، فعلى الرغم من جهود الاحتواء التي تبذلها الحكومة الصينية لتدارك الموقف، فإن الصادرات الصينية التي تمثل 20 في المائة من الاقتصاد يتوقع أن تعاني.
وفي كانون الثاني (يناير) وشباط (فبراير) تشير الأرقام الرسمية إلى تراجع الصادرات 17.2 في المائة، ويشير البعض إلى احتمال أن تشهد الصادرات الصينية مزيدا من التراجع في الفترة المقبلة، مع تزايد لهجة العداء بين عديد من الدول الأوروبية والولايات المتحدة تجاه الصين نتيجة التطورات الأخيرة في هونج كونج، ورغبة السلطات الصينية فرض مزيد من القوانين لضبط الوضع في الإقليم، بينما يعدها خصومها الدوليون أنها ترمي إلى فرض مزيد من القيود على القوى الديمقراطية.
وحذر الرئيس الأمريكي دونالد ترمب بكين باتخاذ إجراءات عقابية ضدها إذا ما مضت قدما في إجراءاتها تجاه هونج كونج، كما أن قرار المملكة المتحدة بعدم السماح لشركة هواوي الصينية بالمشاركة في تطوير شبكة الاتصالات 5G، كل هذا يعطي مؤشرا إلى أن الصادرات الصينية في طريقها للتقلص.
من جانبها، لم تنف الدكتورة نينا لينج أستاذ مساعد والمتخصصة في الاقتصاد الآسيوي في مدرسة لندن للاقتصاد، أن الصين تواجه وستواجه أوقاتا اقتصادية عصيبة، لكنها تعتقد أن البنية الاجتماعية للمجتمع الصيني ستمكن البلاد من التغلب على التحديات الاقتصادية التي تواجهها نتيجة فيروس كورونا.
وقالت لـ"الاقتصادية" إن 85 في المائة من شركات القطاع الخاص ستكافح من أجل البقاء خلال الربع الثالث من هذا العام، ما يعني زيادة البطالة وانخفاض الإنتاج والاستهلاك في آن واحد، لكن إذا أخذنا في الحسبان أن الشركات المملوكة للدولة تراجع فيها التوظيف من 60 في المائة من القوى العاملة عام 1995 إلى 30 في المائة عام 2002، فإن الشركات المملوكة للدولة تستطيع استيعاب جزء كبير من العمالة العاطلة.
وتواصل قائلة إن الترابط الاجتماعي والأسري أعلى في الصين منه مقارنة بالاقتصادات الأوروبية وبالولايات المتحدة، الذي من شأنه أن يخفف من عبء الضغوط الاقتصادية الناجمة عن البطالة، كما أن أغلب العمالة التي تغادر الريف للعمل في المدينة تمتلك أراضي زراعية قادرة على تلبية حد كبير من احتياجاتها الأساسية، ووفقا لتلك المعطيات فإن الاقتصاد الصيني سيكون قادرا على استيعاب الضغط الذي يتعرض له.
بدوره، أكد الباحث الاقتصادي أدرين هولي، هذا أيضا، مشيرا إلى أنه مقابل البيانات السلبية التي ظهرت في بعض جوانب الاقتصاد الصيني، هناك أرقام إيجابية في عديد من جوانب الهيكل الاقتصادي.
وقال لـ"الاقتصادية" إن كلمة السر في تجاوز الصين تداعيات الجائحة في الناتج الصناعي، الذي نما في نيسان (أبريل) الماضي أفضل من المتوقع، وحقق نموا 3.9 في المائة، مقابل انهيار شبه تام في كانون الثاني (يناير) وشباط (فبراير) عندما تراجع الإنتاج الصناعي 13.5 في المائة نتيجة الإغلاق، كما أن استهلاك الفحم ارتفع بشكل ملحوظ، ما يعني زيادة الطلب على الطاقة، ومعدل استئناف النشاط الاقتصادي بلغ 70 في المائة أو أعلى من ذلك.
وأضاف، "يمكن القول إن جائحة كورونا قد وجهت ضربات قوية للاقتصاد الصيني، وقدر بعض الاقتصاديين خسائرها المالية والاقتصادية بضعف الخسائر التي تعرضت لها نتيجة الأزمة المالية والاقتصادية العالمية 2008 - 2009، ويصعب إنكار أن ملامح المشهد الاقتصادي الصيني تتضمن حاليا كدمات واضحة ومؤلمة، لكن ضخامة الاقتصاد الصيني وتنوعه، تجعله يمتلك عديدا من الأوراق التي تمكنه من لملمة شتات نفسه سريعا".
وذكر أن بنك الشعب الصيني (البنك المركزي) لديه أكبر احتياطي من النقد الأجنبي في العالم، وقدر الاحتياطي النقدي في كانون الأول (ديسمبر) الماضي بنحو 3.1 تريليون دولار، بينما يليه البنك المركزي الياباني بنحو 1.39 تريليون دولار، ولا شك أن ذلك يمنح السلطات الصينية القدرة على تبني سياسات تحفيز اقتصادي، وبما يسمح بالقول إن أحلام الصين لتحتل المرتبة الأولى في الاقتصاد العالمي قد تتأخر بعض الوقت نتيجة جائحة كورونا، لكنها لم تذهب أدراج الرياح.

الأكثر قراءة