الوظيفة بين معياري المهارة والشهادة
فجر الرئيس الأمريكي دونالد ترمب في الأسبوع الماضي قضية مهمة في مجال التوظيف في الإدارة الأمريكية، حيث قرر اعتماد "المهارة" وليس "الشهادة" وسيلة رئيسة للتوظيف في الحكومة الأمريكية.
والواقع أن الرئيس الأمريكي أراد بهذا القرار أن يسلط الضوء مرة أخرى على قضية "المعرفة" وأهميتها في إعادة بناء الاقتصاد الأمريكي، بعد أن تضرر كثيرا من جائحة كورونا، التي اجتاحت أمريكا وألحقت باقتصادها أضرارا بالغة.
والحقيقة أن ما فعله الرئيس ترمب الآن سبق أن فعلته كبرى الشركات مثل، "مايكروسوفت" و"جوجل" و"أبل"، هذه الشركات وغيرها من الشركات متعددة الجنسيات، تعتمد في سياستها التوظيفية على المهارة وليس الشهادة.
وحينما نستعرض أهم خصائص اقتصاد المعرفة ندرك إلى أي مدى كان الرئيس الأمريكي صائبا في قراره.
ونؤكد أن اقتصاد المعرفة أصبح خيارا حتميا لجميع الدول، التي تتطلع إلى اللحاق بركب التنمية والحضارة بعد الأضرار التي أحدثتها جائحة كورونا في الاقتصاد العالمي، ودون تحضير مجتمع المعرفة لا تستطيع الدول أن تنهض وتلحق بركب التنمية والحضارة.
وإذا نظرنا إلى مجتمع المعرفة في الدول الكبرى، نجد أن الثروة البشرية هي المحرك الأساس للثروة الطبيعية "وليست الثروة الطبيعية هي المحرك للثروة البشرية"، ولذلك فإن اختيار المواهب هو دعم للابتكار والإبداع، وهو مطلب ملح على طريق تكوين مجتمع معرفي يتمتع بمعرفة واسعة وراسخة.
وهكذا، فإن مجتمع المعرفة يعني، باختصار، وجود مستويات عليا من الموارد البشرية، عالية التأهيل، تتعامل وتتفاعل مع آخر ما وصلت إليه تكنولوجيا المعلومات، أي أن الاقتصاد في هذه الدولة أو تلك ينتج ويوظف المعرفة، لتحقيق مزيد من تراكم الثروة. إن مجتمع المعرفة هو مجتمع الثورة الرقمية، الذي تحتل فيه المعلومة والمعرفة مكانة متقدمة، تقترن بمزيد من الفتوحات العلمية والإبداعية.
والإنسان في مجتمع المعرفة يبدو فعالا نهما إلى التعليم والثقافة، ومؤسسات المجتمع تسهر على زيادة الإنتاج وتفعيل آليات التفكير والتجديد والابتكار.
ويجب أن ندرك أن مجتمع المعرفة ليس المجتمع الصناعي التقليدي المعني بإنتاج السلع وتسويقها، وإنما هو المجتمع المنتج للمعرفة والناشر لها، والساعي إلى توظيفها ونشرها وتوزيعها، كي تتحول إلى تقنية تجارية مولدة للمال من أجل بناء الثروة والدولة. ولذلك فإن القدرة على مواكبة العلوم والتقنيات الحديثة، وتطويرها وتجديدها والإبداع فيها ونشرها، تعني أننا مجتمع نجح في استيعاب العصر الذي نعيش فيه، أما إذا أخفق المجتمع في استيعاب أدوات العصر، الذي يعيش فيه، وبالذات عصر ما بعد كورونا، فإن التخلف ينتظره بالمرصاد.
إن اقتصاد المعرفة هو فرع من الاقتصاد العام يتعلق بجميع الأنشطة والعمليات الخاصة، بتصنيع وإنتاج وتسويق وتوظيف وتشغيل واستهلاك، وإعادة إنتاج المعلومات والمعرفة، ويشمل طيفا واسعا من الصناعات والأنشطة منها، صناعات البرمجيات والإلكترونيات والاتصالات ونظم المعلومات وخدمات المعلومات، كما يضم أيضا الأنشطة التي لها علاقة بالمحتوى مثل، مراكز الأبحاث ومؤسسات الفكر والمكاتب الاستشارية ومكاتب دراسات الجدوى، ومراكز اللغات والترجمة ودور النشر والصحف ووكالات الأنباء والإذاعة والتلفزيون، إضافة إلى الأنشطة ذات العلاقة بالجوانب الطبية والبحوث البيولوجية والدوائية.
وفي الاقتصاد التقليدي تزداد قيمة المنتجات مع الندرة "نظرية الندرة" وقلة العرض، في حين يحدث العكس في اقتصاد المعرفة، حيث تزداد قيمة المنتج المعرفي كلما شاع وأصبح متوافرا.
إن عصر ما بعد كورونا هو بحق عصر اقتصاد المعرفة أو الاقتصاد الرقمي أو اقتصاد تكنولوجيا المعلومات، باعتبار أن ثورة تكنولوجيا المعلومات حفزت مؤسسات الأعمال، إلى انتهاج برامج تعد من أهم عوامل إعادة البناء بسرعة فائقة وتكلفة اقتصادية زهيدة.
لقد صار بالإمكان تكوين وجمع وتخزين ومعالجة وتوزيع المعلومات على نطاق واسع، بتكلفة منخفضة لم يشهد لها التاريخ مثيلا من قبل، فالعصر الصناعي كان عصر ديكتاتورية المعلومات، لأن المعلومات كانت حكرا على الشركات الكبرى متعددة الجنسيات، بينما حرمت الشركات الصغيرة والعملاء الصغار من فرصة الانتفاع من المعلومات.
ونحن بعد كورونا غادرنا مرحلة العصر الصناعي، ودخلنا مرحلة العصر الاصطناعي، وهو عصر ذكي سيتميز كثيرا بدور الروبوتات والتنافس الشرس بين الروبوت وبين الإنسان!
ونستطيع القول، إن الثورة الرقمية بدأت فعلا في تفكيك النظام القديم واستبداله بنظام جديد، يتيح لكل فرد فرصة الارتباط بأي فرد آخر في أي بقعة من بقاع العالم، وأصبح من السهولة بمكان اليوم الاتصال "أون لاين" بين منشآت الأعمال - في كل أنحاء العالم - لأغراض اقتصادية، كإبرام الصفقات وتبادل المعلومات والبيانات، التي كانت لأعوام طويلة تصنف على أنها "سرية للغاية"، بل أصبح ميسورا أمام أي إنسان أن يتصل بكل الأسواق في كل أنحاء العالم، ليشتري ما يرغب فيه من سلع وخدمات عبر الإنترنت، وأصبحت الاجتماعات تعقد من خلال "الفيديو كونفرانس"، بل أصبح التعليم يقدم بكل مستوياته عبر الـ"أون لاين".