البيجر بين الاحتفاء والاختفاء .. تكنولوجيا انقرضت بفعل التكنولوجيا

البيجر بين الاحتفاء والاختفاء .. تكنولوجيا انقرضت بفعل التكنولوجيا
البيجر بين الاحتفاء والاختفاء .. تكنولوجيا انقرضت بفعل التكنولوجيا

إذا كانت أواخر عقد التسعينيات الميلادية من القرن الماضي، تعرف بالفترة الزمنية لظهور الهاتف المحمول في السعودية، فإن بداياتها، بالتحديد عام 1992، كانت مرحلة دخول السوق الجهاز الأقصر عمرا من بين وسائل الاتصال "البيجر".
"البيجر" أو كما يطلق عليه علميا جهاز الاستدعاء أو النداء الآلي، استقبله السعوديون بحفاوة عند وصوله، لكنه لم يعمر طويلا بعد ما كتبت نهايته في مطلع الألفية الثانية.
وقد يبدو "البيجر" أول مظاهر العولمة التي جعلت "العالم قرية صغيرة"، وبظهوره وانتشاره خاصة في أوساط الشباب السعودي مطلع التسعينيات الميلادية، كان بمنزلة صرعة تقنية لم يكن لها مثيل في ذلك الوقت، إذ تنوعت الأجهزة وتنافس المتنافسون على اقتناء أخفها حجما، وأميزها شكلا.
وبسبب "البيجر" تشكل قطاع استثماري جديد عرف باسم "كبائن الاتصالات" الذي بات ضروريا لمن يراد استدعاؤهم على الجهاز في حال كانوا خارج المنزل أو العمل.
"الاقتصادية" تستكمل توثيق مراحل تطور وسائل الاتصالات في السعودية التي تفجرت في عقد التسعينيات الميلادية من القرن الماضي، إذ شهدت مطلع العقد ظهور "البيجر" وكبائن الاتصالات بدلا من هواتف العملة، والإنترنت، والهاتف المحمول ماركة "العنيد"، ومن ثم هاتف جوبز "آيفون".

200 ألف خط ورسم 100 ريال
وخلافا لبدايات أسعار رسوم خدمات الهاتف الثابت والمحمول المرتفعة في بداياتها لدرجة باتت فيه حكرا على فئات محددة، كان "البيجر" منحازا لكل الطبقات.
ولم تكن خدمة "البيجر" مجرد خدمة، بل كانت نقلة نوعية في قطاع الاتصالات في ذلك الوقت، ما جعل الإقبال عليها كبيرا وغير متوقع، وصل إلى بيع أكثر من مليون جهاز.
ويوضح لـ"الاقتصادية" المهندس سمير متبولي نائب رئيس شركة الاتصالات السعودية سابقا، أن المملكة أدخلت 200 ألف خط "بيجر" في 17 مدينة فقط عند بدء الخدمة، ثم توسعت الخطوط وأصبحت 500 ألف خط.
محدودية الخطوط جعلت قائمة الانتظار تطول ومنحها بحسب الأولوية، وهو ما يؤكده المهندس متبولي، حيث ارتفع الطلب وقتها من الشركات والمستشفيات، وكان الأطباء والمهندسون وسائقو الشاحنات أكثر الفئات طلبا لـ"البيجر"، إضافة إلى فئة أخرى اقتنت الأجهزة بهدف التباهي.
اعتمدت مواصفات معينة لأجهزة "البيجر" التي طرحت في المملكة، ومع الوقت صدر منها نسخ بخدمات إضافية، كالنغمات والهزاز والأحجام والألوان المختلفة.
وحول سبب محدودية خطوط "البيجر" في تلك الفترة، قال متبولي، كان للوزارات ميزانية محددة، ولم نكن نتوقع الإقبال الكبير على الخدمة، كونها جديدة.
وبإمكان المشترك الحصول على أكثر من رقم، كما يمكن استخدام الرقم الواحد من أكثر من شخص. وتجري عملية الطلب بالاتصال من هاتف ثابت على رقم "البيجر" حتى يصدر رنينا عند المتصل، وطنينا عند المستقبل. وإذا كانت الحالة ضرورية يتم إرسال رمز رقمي "على سبيل المثال 999" بعد الضغط على علامة المربع لتظهر على شاشة "بيجر" المستقبل.
ظهرت الجوالات، لتكتب البداية لنهاية عمل البيجر، الذي انخفض الطلب عليه، لتتوقف الخدمة نهائيا عام 2000. يوضح المهندس متبولي أن في هذا العام كان لابد من تعديل الأجهزة بشكل إلزامي في جميع العالم، وهو أمر مكلف، فجرى دراسة الوضع، واتخذ القرار بوقف الخدمة.

متى بدأ "البيجر"؟
يعود اختراع جهاز الاستدعاء "البيجر" إلى عام 1949، للمخترع الكندي ألفريد جروس بهدف مساعدة الأطباء على التواصل في حالات الضرورة القصوى.
وفي عام 1950 دخل طور الخدمة في مدينة نيويورك الأمريكية للأطباء الذين كانوا يدفعون 12 دولارا شهريا للخدمة.
وتطورت الخدمة خلال الستينيات والسبعينيات الميلادية حتى حدث عصر الانتشار الكبير في الثمانينيات والتسعينيات الميلادية من القرن الماضي.
وبلغ عدد مستخدمي "البيجر" بحلول 1994 أكثر من 61 مليون شخص حول العالم، لينخفض لأقل من ستة ملايين شخص وفق إحصائية صدرت في 2016.

"موتورلا" في كل "جيب"
برز اسم شركة "موتورلا" كثيرا التي رغم استمرارها حتى الآن في إنتاج الهواتف المحمولة وتأسيس البنى التحتية للاتصالات عالميا، إلا أن تميزها ارتبط بـ"البيجر".
وتراوحت أسعار مبيعات جهاز "البيجر" الواحد بين ألفين وخمسة آلاف ريال، إذ سعت الشركات بمرور الوقت إلى تصغير حجم أجهزتها التي كانت كبيرة لدرجة السخرية منها.
وكان التنافس على أشده بين الشركات على توفير الإكسسوارات المصاحبة للبيجر، وأولها المحافظ الجلدية الفاخرة والسلاسل الفضية أو خيوط حريرية لتعليق الجهاز لاستقطاب الشباب.
وفي محال الخياطة الرجالية خصص جيب للجهاز داخل جيب الثوب، ولم تغادر تلك البقعة جيوب السعوديين من حينها، إذ استحوذ عليها الجوال.
وجاءت بداية النهاية مع انتشار الهواتف المحمولة وتدهور قيمته السعرية ليصل إلى أقل من 100 ريال في أيامه الأخيرة.

قيد الاستخدام طبيا
رغم خسارة "البيجر" لملايين المستخدمين سنويا حول العالم، الذين يتحولون إلى الهواتف المحمولة، إلا أن 80 في المائة من الأطباء ما زالوا يستخدمون أجهزة النداء، بحسب دراسة لمجلة "طب المستشفيات الأمريكية".
ويرجع استمرار استخدام هذه الأجهزة بين الأطباء في أمريكا وبعض دول العالم إلى أسباب تقنية، وأيضا طبية خاصة في المستشفيات التي يحظر فيها استخدام الجوال لانعكاساته الخطيرة على أجهزة الكشف ومعاينة المرضى والأشعة.
وفي بريطانيا، أبلغ وزير الصحة هيئة الخدمات الصحية الوطنية بالتوقف عن استخدام أجهزة النداء الآلي بحلول 2021 لتوفير المال، حيث لا تزال تستخدم نحو 130 ألف جهاز، تكلف الدولة 6.6 مليون استرليني سنويا.
وقال مات هانكوك إن تلك الأجهزة عفا عليها الزمن، موضحا أنه يريد التخلص من التكنولوجيا القديمة مثل أجهزة الاستدعاء والفاكس.
ورغم تصريح هانكوك إلا أن كثيرين من الأطباء يقولون، إن أجهزة الاستدعاء تلك سريعة وموثوقة، والبدائل المقترحة لها عيوبها الخاصة.
ويوضح تقرير نشرته "بي بي سي" في 2019، أن نظام النداء مفيد في حالات الطوارئ، على سبيل المثال إذا أصيب المريض بالسكتة القلبية في المستشفى، يمكن أن يستغرق إرسال تنبيه إلى عديد من أعضاء الفريق الطبي أقل من دقيقة، وهو أمر بالغ الأهمية في حالة الطوارئ.
ويرى هانكوك أن "البريد الإلكتروني والهواتف المحمولة وسيلة اتصال أكثر أمنا وأسرع وأرخص".

"أحد بيجرني ؟" .. ما بقي في الذاكرة

"أحد بيجرني؟" بقيت هذه العبارة في ذاكرة السعوديين رغم مرور ما يقارب 20 عاما على اندثاره. ومع أن هذا الاستفهام "أحد بيجرني" كان حينها يستخدم عند الاتصال بالرقم الوارد إلى جهاز الاستدعاء، أو للمزاح بين الشباب حين يلتقون أو إذا اتصل أحدهم بالآخر، واستمرت تتداول في هذا الشكل حتى في عصر الواتساب. ورغم بساطته وقلة خصائصه إلا أن "البيجر" كان يمثل خدمة لا تقدر بثمن للبعض في ذلك الوقت. ويوضح خالد المجري - أحد السعوديين الذين ظفروا به قبل 30 عاما - أن كثيرين من الجيل الحالي لا يعرف "البيجر"، في المقابل كانت هناك أزمة للحصول عليه وقت ظهوره، وربما تضطر إلى دفع نقل قدم يصل إلى عشرة آلاف ريال للحصول عليه. ويشير المجري خلال حديثه لـ"الاقتصادية"، أن فترة استخدام "البيجر" شهدت رموزا وإشارات خاصة بمستخدمي الخدمة ولا سيما من الشباب الذين جعلوا من كل رقم من أرقامه علامة ورمزا خاصا لا يفهمه إلا من يزدان جيبه بجهاز البيجر، حيث كان كل رمزا يدل على معنى، فالرقم 999 معناه كلمني ضروري وغيره من الرموز التي كانت متعارف عليها بين حاملي البياجر في ذلك الجيل. وبعد فترة قليلة من ظهور البيجر شرعت الشركات المصنعة في تطوير الأجهزة وإرفاق "كتالوج" معها يشرح بعض الرموز التي يضغط عليها المستخدم إذا أرد "دق" البيجر، لتظهر عبارات على شاشة الجهاز مثال، عد إلى البيت، اتصل حالا.. وغيرها من العبارات.

كبائن الاتصالات.. أثر بعد عين

بعد أن كانت مترامية في زوايا الشوارع والطرقات أصبحت أثرا بعد عين، إذ لا تزال تحتفظ الذاكرة بالمواقع التي كانت تتوزع فيها كبائن الاتصالات. ووفرت كبائن الاتصالات خصوصية للمتصلين أكثر من الشكل القديم لها المتمثل في هواتف العملة على أرصفة الشوارع. ظهرت كبائن الاتصالات، لإجراء المكالمات الدولية والمحلية، كبديل عن الهواتف التي كانت تعمل بالعملة النقدية، وأصبحت من أفضل الفرص الاستثمارية، ووصل عددها في الثمانينيات وبداية التسعينيات، إلى 3128 كبينة في مختلف مناطق المملكة. كانت التراخيص تمنح لتلك الكبائن وفق اشتراطات معينة يتصدرها ضمان بنكي يقدر بـ25 ألف ريال، يرتفع إذا ارتفعت عدد الخطوط إلى عشرة خطوط ليصل إلى 50 ألف ريال، إضافة إلى تجهيز كبائن منفصلة عازلة الصوت مجهزة بهاتف إضافة إلى تكييف المحل وتجهيزه بشكل لائق. ويقول لـ"الاقتصادية" الدكتور نايف الجابري، وهو مختص في الاتصالات، إن ظهور البيجر الذي كان يعد ثورة في الاتصالات في وقتها عزز وجود الهاتف الثابت لسرعة الرد، وهو ما شجع على ظهور محال كبائن الاتصالات، التي حظيت بانتعاش وازدهار كبير. ويضيف الدكتور الجابري "وانتشرت في المملكة بشكل واسع وكانت ذات عائد كبير ووفرت فرصا وظيفية كثيرة، خاصة لطلاب الجامعة، بل وصل تقبيل محال كبائن الاتصالات إلى ملايين الريالات، وكان استثمارا واعدا في تلك الفترة، ومن أكثر القطاعات المربحة". من جهته، يوضح أحمد المسعود أحد المستثمرين في كبائن الاتصالات، أن متوسط تكلفة المشروع كانت تصل إلى 140 ألف ريال، موضحا أن الكبائن شهدت انتعاشة في ذلك الوقت وطوابير الانتظار عليها كانت طويلة، وأغلب روادها من الأجانب، كما كانت مكملا لعمل البيجر فبمجرد أن يأتي نداء منه، يبحث الشخص عن أقرب محل كبائن ليجري الاتصال. تطور الأمر تدريجيا، حيث يشير المسعود إلى أنه في بداية التسعينيات طرحت في السوق بطاقات سوا التي كانت تستخدم عبر الهاتف المنزلي لإجراء المكالمات الدولية، وكانت منافسا كبيرا لكبائن الاتصالات، التي بدأ العمل يخف عليها، بل بدأت الخسائر تلتهم الاستثمارات الصغيرة ولم يستطع المقاومة إلا الاستثمارات الكبيرة، وفي 1995 دخلت الجوالات للعمل في المملكة ما عد تحديا كبيرا أمام كبائن الاتصالات والبيجر. حظيت كبائن الاتصالات بقبول مجتمعي كبير، وأرجع الدكتور أحمد برناوي أستاذ الاتصالات في جامعة الملك عبدالعزيز ذلك، إلى توافرها في كل المناطق والأحياء، وطول فترة انتظار الحصول على خط هاتف منزلي، إضافة إلى ارتفاع تكلفة الاتصالات الهاتفية مقارنة بها، رغم وجود بعض المخالفات التي كانت تمارس من خلالها مثل تمرير المكالمات، التي خفت مع الوقت.

الأكثر قراءة