منظمة التجارة تتحول إلى نمر دون أسنان .. والنظام العالمي يدخل عصر القوة فوق الحق
إذا كان هناك من يحتاج إلى دليل على أن أكبر منطقة تجارة حرة في العالم ستفشل في الوصول إلى مستوى التوقعات، فالأمر لن يحتاج إلى أكثر من إلقاء نظرة على ما يجري في ساحة الإفراج الجمركي في مطار بودونج في مدينة شنغهاي الصينية.
هذه الاتفاقية التي تم توقيعها، أمس الأول، تضم الدول العشر الأعضاء في رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) وكلا من: الصين، اليابان، أستراليا، كوريا الجنوبية، ونيوزيلندا، لتشكل أكبر منطقة تجارة حرة في العالم حتى الآن.
ففي حين كانت الاستعدادات النهائية تجري لتوقيع اتفاقية الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة (آر.سي.إي.بي)، في وقت سابق من الشهر الجاري، كانت السلطات الصينية تؤخر السماح بدخول عدة أطنان من واردات سرطان البحر القادمة من أستراليا عدة أيام، في حين أن اتفاقية الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة تقضي بدخول الواردات القادمة من أي دولة عضو فيها خلال ست ساعات.
وجاء تأخير دخول شحنات سرطان البحر من المنافذ الحدودية الصينية، بسبب تعليمات غير رسمية من الحكومة بفرض قيود على دخول سبع فئات من المنتجات الأسترالية إلى السوق الصينية على خلفية التوترات الدبلوماسية بين بكين وكانبرا، بحسب وكالة "بلومبيرج" للأنباء.
وطلبت وزارة الخارجية الصينية من الأستراليين ضرورة "إعادة النظر في تصرفاتهم"، إذا كانوا يريدون علاقات اقتصادية أفضل مع الصين.
ويقول المحلل الأمريكي ديفيد فيكلنج إن هذا المشهد الذي تقوم به إحدى الدول بممارسة الإكراه على شركائها التجاريين وفي الوقت نفسه تشترك معهم في تكتل تجاري جديد، هو أفضل شعار للعصر الحالي.
وما يزيد من عمق الأزمة التي يواجهها نظام التجارة العالمي، تحول منظمة التجارة العالمية إلى نمر دون أسنان، واستمرار الهجوم على المنظمة رغم تراجع حضورها، حيث تمارس الولايات المتحدة حق النقض (الفيتو) على تولي النيجيرية نجوزي أوكونونجو إويالا منصبها كمدير جديد للمنظمة.
ويضيف فيكلنج الذي ينشر تحليلاته في "وول ستريت جورنال" و"فاينانشيال تايمز" ووكالة "بلومبيرج" للأنباء، أن محاولات إقامة نظام عالمي جديد قائم على سيادة القانون والقواعد بعد تفكك الاتحاد السوفياتي فتحت الباب أمام دبلوماسية "القوة فوق الحق". وساد هذا المنطق إلى درجة أن اتفاقيات التجارة الحرة التي يتم الترويج لها تخضع لهذا المنطق.
وبحسب "الألمانية"، ترى ديبورا إيلمس المدير التنفيذي لمركز التجارة الآسيوي الموجود في سنغافورة أن النصوص النهائية لاتفاقية الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة تبدو إيجابية بصورة مدهشة. ولعل قرار الهند الانسحاب من المفاوضات في العام الماضي سهل على الدول الأخرى الوصول لاتفاق. ونتيجة لذلك فإن النصوص الخاصة بموضوعات شائكة مثل الاستثمار والخدمات والمنتجات الزراعية تبدو أقوى من المتوقع.
ورغم ذلك، فإن هذا التكتل التجاري لم يصل إلى اتفاقية شاملة كتلك التي تضم دول المنطقة الاقتصادية الأوروبية، ولا حتى النسخة المعدلة لاتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ التي تم التوصل إليها بعد انسحاب الولايات المتحدة منها والتي تضم أيضا دولا موجودة في اتفاقية الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة مثل أستراليا، اليابان، وفيتنام. من ناحية أخرى، فإن هذا لا يهم كثيرا، فاتفاقية الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة، ستؤدي إلى زيادة إجمالي الناتج المحلي للصين 0.5 في المائة بحلول 2030، بحسب تقديرات يوكي ماسوجيا، المحلل الاقتصادي في خدمة "بلومبيرج إنتيليجانس". كما ستزيد إجمالي الناتج المحلي لكوريا الجنوبية التي لم تنضم إلى أي تكتل تجاري إقليمي قبل الآن 1.4 في المائة واليابان 1.3 في المائة خلال الفترة نفسها. والمشكلة، بحسب فيكلنج، هي أن هذه الزيادة متواضعة للغاية وإن كانت حقيقية. كان الهدف من إنشاء منظمة التجارة العالمية هو تقليص الحواجز الجمركية بين دول العالم وتوحيد القواعد الحاكمة لحركة التجارة والاستثمار بينها، مع الاتفاق على آليات مشتركة لتسوية المنازعات وفرض القواعد، من أجل تشجيع حركة التجارة والاستثمار عبر الحدود.
ولكن اتفاقيتي الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة والشراكة عبر المحيط الهادئ، وغيرهما من التكتلات الاقتصادية الإقليمية تتبنى الرؤية القديمة القائمة على تعميق التكامل الاقتصادي داخل منطقة معينة، لمواجهة علاقات متوترة مع الدول الأخرى. لذلك فإنه ينظر إلى اتفاقية الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة، وهي التكتل الأوسع نطاقا لرابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان)، بحسبانها نوعا من "السلام الصيني" (باكس سينيكا) وهو مصطلح تاريخي يشير إلى الفترات التي ساد فيها السلام منطقة شرق آسيا بقيادة الصين، حيث ستربط المنطقة بنظام عالمي تقوده الصين. في المقابل، فإنه تم الترويج لاتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ في البداية بحسبانها محاولة أمريكية لكبح الطموحات العالمية للصين، قبل انسحاب واشنطن من هذه الاتفاقية. ويرى فيكلنج، المتخصص في موضوعات التجارة العالمية، أن مثل هذه التكتلات ليست اتفاقيات للتجارة الحرة، لكنها أقرب إلى نمط المعاملات التفضيلية الاستعمارية التي سادت العالم في أواخر القرن الـ19 وأوائل القرن الـ20. ففي ظل ذلك النظام الاستعماري كانت القوى الأوروبية تحقق فوائض تجارية مع الدول الواقعة داخل الإمبراطوريات الاستعمارية التابعة لها، في الوقت الذي تفرض فيه حواجز على الدول الأخرى، ما أدى إلى تلاشي العلاقات التجارية والاقتصادية بين الدول الأوروبية بعضها بعضا، وهو ما أسهم في نشوب الحرب العالمية الأولى عام 1914.