قوافي العويس .. السخرية في قلب الحكمة

قوافي العويس .. السخرية في قلب الحكمة
سليمان العويس
قوافي العويس .. السخرية في قلب الحكمة
قوافي العويس .. السخرية في قلب الحكمة
محمد السيف

محمد السيف

رئيس تحرير المجلة العربية

 

تعود علاقتي بالشاعر الكبير سليمان العويس - الذي انتقل إلى رحمة الله الجمعة 11 ديسمبر الجاري- إلى ما قبل 20 عاما، حينما هاتفته وزرته في منزله، شرق الرياض، في محاولة لإجراء مقابلة معه وتوثيق شيء من شعره، وهي المحاولة التي باءت بالفشل، لكنها كانت مدخلا لعلاقة ستمتد لأعوام، عرفته من خلالها من قرب، فأحببته، وكل من عرفه أحبه وأحب شاعريته وسخريته اللاذعة.
ولد الشاعر سليمان بن عبدالكريم العويس في قرية "شلوان" من قرى الزلفي، قريبا من عام 1932، وهو العام الذي أعلن فيه الملك المؤسس - رحمه الله - المسمى الجديد لدولته الناشئة، التي وحد أقطارها وأمن سبلها، لذلك فالشاعر ينتمي إلى الجيل السعودي الذي ولد من رحم الدولة الجديدة، وهو الجيل الذي عايش بناء الدولة وشهد على تحولاتها الكبرى، الجيل الذي واجه شح الموارد وعاش أحداث الطفرة الهائلة التي شهدتها المملكة.

تعلم الشاعر سليمان العويس في كتاتيب قريته ثم انتقل إلى كتاتيب مدينة الزلفي، لينتقل بعد أن شب عن الطوق إلى مدينة الرياض، شأنه شأن أقرانه، طلبا للرزق وبحثا عن العيش الكريم في مدينة بدأت فيها فرص العمل تتصاعد وتتوزع سبله وتتنوع. وقد عاش حياته الممتدة 90 عاما مكافحا كادحا باحثا عن رزقه. هو القائل:

والله لو رزقي ورى أطراف تايوان لاضرب قدم، والناس للرزق يمشون
لا راتب يمشي ولا فيه دكان البيت كروه، وأبرق التكس مرهون
***

في مجلة "المجلة" اللندنية، كتب عنه الروائي الطيب صالح. سألته ذات مرة: هل قرأت ما كتبه عنك الطيب صالح؟! فقال لا، أنا لا أقرأ المجلات والصحف.
قلت له، سأزودك بصورة من مقالته، فرد قائلا، لا يعنيني ذلك كثيرا، فلم يبق في حياتي أكثر مما مضى!
سألته مرة أخرى، هل تتذكر حينما قام الطيب صالح وقبل رأسك في حشد من الشعراء والمثقفين في مهرجان الجنادرية بعد أن ألقيت قصيدتك الغزلية الشاكية الباكية؟ التي ألهبت مشاعر الحضور جزالة ومعنى ونبرة صوت شجية.
قال، نعم أذكر ذلك الموقف.
قلت، ما مشاعرك آنذاك؟
قال، أشكر الطيب صالح على اهتمامه بالشعر الشعبي وعلى كريم مشاعره تجاهي. ولم يخف الشاعر استغرابه من مدى فهم الطيب صالح لمفردات الشعر باللهجة النجدية. والقصيدة التي أعجبت الروائي الطيب صالح، قصيدة مشهورة للشاعر العويس، من أبياتها،

أشقر ضربني مثل ضربة فريزر ضربة فريزر يوم يضرب بها كلاي
بالكف الأيمن من على الخد الأيسر ابتتقا عنه واخطيت متقاي
لا شايلن بندق ولا شال خنجر اسلاحه الثنتين لله مشكاي
يا أحباب خالد وبن لعبون وعمر تسببوا تكفون هاتوا لي ادواي
قاموا وجيه الخير باليوم الاغبر كلن يقول اصبر دقيقة وأنا جاي
بالحال جابوا لي ثمانين دختر معهم شهادات كبار وعلاي
من جامعة لندن ومن كل مصدر تجمعوا عندي لما عقدة الراي
قالوا دواء اللي حب بالكتب ما مر ما جابه محاضر ولا ابداه قراي
***
يقف الشاعر سليمان العويس في طليعة شعراء النبط في عصرنا الحاضر، وهو أحد فرسان حلبة الرد والمحاورة، وربما يمتاز عن غيره من شعراء جيله بسخريته الاجتماعية ونقده اللاذع لكثير من المظاهر. ولم يسلم مرفق حكومي خدمي من قصيدة لاذعة، ولم تحدث قضية محلية إلا وكان له فيها تعليق ساخر.
يقول،

أحد يفكر بس في كروة البيت وأحد يخطط للسفر للكنانة

وحينما تناولت وسائل الإعلام القضية الشهيرة الخاصة بأحد القضاة، وقد زعم أن الجن قد تلبسه، قال الشاعر سليمان العويس،

جني ومتمرد لعب بالقضاتي والشيخ ما خبرت تجيه الشياطين
الظاهر أنه من كبر العصاتي ما عنه لا مهرب ولا منه تحصين
من شبتي واليوم بآخر حياتي ما ذكر شيطان تعرض هل الدين
ومن السحر وأهله لديهم براتي ما يقربون الصايمين المصلين
يالله بوجهك عن كثير الشماتي يمضي بخير القرن واحد وعشرين

وهو القائل في الثمانينيات الميلادية، حينما هوت أسعار النفط، وقد أنزل أحد أبنائه عند المدرسة، فقال له ابنه، أبغى فلوس فسحة! فقال له والده على الفور،

أنزل بلا فسحة زمان الفسح راح أنزل قبل ما اطلع الخيزرانة
والله لاخلي لك مع الشارع صياح أخوك قبل شوي قطعت آذانه
يوم إن عندي شيء مانيب شحاح واليوم ما أملك شيء والله وأمانه

ويقول متوجدا على صديقيه الشاعر منديل الفهيد والشيخ سعود العصيمي حينما رآهما غير قادرين على الحركة، مضمنا أبياته سخرية من بعض أبناء الجيل الحالي،

تزهد من الدنيا ليا شفت منديل وسعود بن عبدالعزيز العصيمي
من عقب ما هم مدهل للرجاجيل ما منهم اللي واقف مستقيمي
جرد السنين تبدد الحيل بالحيل من غدرها ما فيه شهم سليمي
ما تقطع إلا بالرجال الحلاحيل والدون منها في جنان ونعيمي
من النصاحة غادي تقل برميل كفل وظهر مثل الخروف النعيمي

عاش الشاعر حياته منكرا لذاته، زاهدا بالدنيا، كارها للمظاهر الزائفة والبراقة. كان يعمل، مطلع حياته، في السيارات الثقيلة، فرأته امرأة، وهو الشاعر المدوي، فاستنكرت ملابسه، فرد عليها، على الفور، بقصيدة يقول في مطلعها،

عرضي نظيف ولا تغرك ثيابي لو تمتلي ديزل أو تمتلي زبت

عرف عنه الوفاء مع أصدقائه ومع شعراء جيله، فهو يزورهم بانتظام في منازلهم، وهم كوكبة مميزة من الشعراء والرواة يصعب حصرهم في هذه المقالة.
بعد فترة من وفاة صديقه ورفيق دربه الشاعر مساعد الغزي، قال،

كل يموت وخمسة أيام ننساه إلا مساعد لا يزال بخياله

ويقول عن صديق له آخر،

وش ذا الزمان اللي طعامه رجاجيل مسلط سيفه على نادر الناس
***

لقد برع الشاعر، أكثر ما برع، في شعر الحكمة والسخرية، وله أبيات كثيرة متداولة، يتداولها كثيرون ولربما لا يعرفون قائلها، فهو كان ينشر أبياتا شعرية ساخرة، وعبر أعوام طويلة، في مجلة "اليمامة"، ولا يوقعها باسمه، فذلك لا يهمه كثيرا، بقدر ما يهمه وصول الفكرة إلى الناس، وهو لا يحتفظ كثيرا بشعره، وأغلبه قد لا يكون مدونا، وقد حاولت معه كثيرا أن أجمع ديوان شعره، لكنه كان يأبى مع ابتسامة ساخرة.
تعود بي الذاكرة إلى أمسية من أجمل أماسي وليالي العشر النبطي، حينما دعانا الشاعر، قبل 20 عاما، إلى منزله بحضور سادن الشعر النبطي وموثقه بمنهج أكاديمي صارم، وهو الدكتور سعد الصويان، والراوية إبراهيم اليوسف ومحمد الشرهان والدكتور صالح الوشيل، عميد كلية الشريعة، ووجوه من كرام، شيبا وشبابا، تسمروا جميعهم في أماكنهم، وهم يستمعون لحكايات وروايات وقصائد امتدت إلى ما بعد منتصف الليل.
رحم الله الشاعر سليمان العويس، وجزاه خير الجزاء على وطنيته الحقة وعلى صدق مشاعره تجاه وطنه وقادته ومواطنيه، وهي مشاعر تعكسها قصائده الغراء.

الأكثر قراءة