الاستثمارات الخارجية المباشرة استراتيجية بكين نحو قيادة الاقتصاد العالمي

الاستثمارات الخارجية المباشرة استراتيجية بكين نحو قيادة الاقتصاد العالمي
مبادرة الحزام والطريق تعتبرها الصين بوابة تلج منها إلى آفاق اقتصادية أكثر رحابة في مجال التجارة العالمية. "رويترز"

تعد الاستثمارات الخارجية للصين واحدة من آليتها الرئيسة لتحقيق استراتيجيتها الطامحة لقيادة الاقتصاد العالمي.
وفي الواقع، فإن تلك الاستثمارات تقوم بأدوار متعددة لخدمة الاقتصاد الصيني، إذ تعد فرصة لتعزيز إمكانات الاقتصاد الوطني، عبر العوائد المالية التي تحققها.
وفي الوقت ذاته تمنح ضمانة للاقتصاد الصيني بتأمين احتياجاته اللازمة لمواصلة تطوره ونموه، سواء من مواد خام أو قدرات تكنولوجية، لكنها أيضا تتيح للصين الفرصة للاستفادة من قوتها الاقتصادية لزيادة نفوذها الخارجي، مدفوعة في ذلك- جزئيا على الأقل- باستراتيجية مبادرة الحزام والطريق، التي تعدها القيادة الصينية البوابة، التي ستلج منها إلى آفاق اقتصادية أكثر رحابة في مجال التجارة العالمية.
يفضل عديد من الخبراء تقسيم النشاط الاقتصادي الصيني في الخارج إلى قسمين رئيسين، الأول يتعلق بالاستثمارات الخارجية المباشرة، ويتركز ذلك في الاقتصادات المتقدمة في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية وبعض دول شرق القارة الآسيوية مثل كوريا الجنوبية واليابان، بينما يدخل القسم الآخر ضمن فئة عقود البناء وتتركز في الأساس في الدول النامية والاقتصادات الناشئة.
وتشير البيانات المتاحة إلى أن الاقتصادات المنخفضة ومتوسطة الدخل تلقت بين 2005 و2019 ما يعادل 83.4 في المائة من 815.3 مليار دولار من مشاريع البناء الصينية في جميع أنحاء العالم، في المقابل اجتذبت الدول ذات الدخل المرتفع 62.1 في المائة من تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر الصيني، التي بلغت بين عامي 2005 و2019، ما يعادل 1.23 تريليون دولار.
من جهته، يقول لـ"الاقتصادية"، الخبير الاستثماري هاري جيرلد، "أوروبا وأمريكا الشمالية باستثناء المكسيك، هي الوجهة الأولى للاستثمار الأجنبي المباشر العالمي، حيث يتركز هناك 62 في المائة من أرصدة الاستثمار الأجنبي العالمي، وهناك أيضا تتركز الاستثمارات الأجنبية المباشرة الصينية، فبين عامي 2005 و2019 استثمرت الشركات الصينية 624.4 مليار دولار في أمريكا الشمالية وأوروبا، أي ما يزيد قليلا على نصف جميع تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر الخارجي الصيني خلال تلك الفترة".
الولايات المتحدة تعد الوجهة الأولى للاستثمار الأجنبي المباشر الصيني، فقد جذبت 15 في المائة من الاستثمارات الصينية بين عامي 2005 و2019 وهذا يعادل نحو 183.2 مليار دولار أمريكي، مع ذلك، فإن الصين بعيدة كل البعد عن أن تكون أكبر مستثمر في الولايات المتحدة، ففي العام الماضي لم تشكل الصين إلا 0.8 في المائة فقط من تدفقات الاستثمارات الأجنبية في الولايات المتحدة، بينما ظل أكبر ثلاثة مستثمرين في الولايات المتحدة اليابان (13.9 في المائة) والمملكة المتحدة (11.3 في المائة) وكندا (11.1 في المائة).
بالنسبة لأوروبا تبدو الصورة مختلفة بعض الشيء، فإجمالي الاستثمارات الأجنبية المباشرة الصينية في جميع دول القارة الأوروبية بلغ خلال الفترة من 2005 و2019 نحو 383.4 مليار دولار، ثلاثة أرباع هذا المبلغ وجه إلى دول أوروبا الغربية، حيث استثمرت الصين 162.1 مليار دولار، وفي شمال أوروبا 127.3 مليار دولار، بينما لم تحصل دول شرق وجنوب أوروبا إلا على 83 مليار دولار من الاستثمارات الصينية المباشرة، واحتلت المملكة المتحدة المرتبة الأولى أوروبيا كأكبر متلق للاستثمار الأجنبي المباشر من الصين في أوروبا، وثاني أكبر متلق للاستثمارات الصينية بعد الولايات المتحدة، والثالث على المستوى العالمي.
في هذا السياق، يقول لـ"الاقتصادية"، سام أيدن الباحث في الشؤون الأوروبية، "الاقتصادات الصينية المباشرة في أوروبا تواجه عددا من التحديات أبرزها التركيز في أغلبها على قطاع التكنولوجيا المتطورة، ويوجد هذا حالة من القلق لدى عديد من الحكومات الأوروبية، بأن تلك الاستثمارات لا تقف عند حدود الفكر التقليدي، الذي يربط بين الاستثمار والسعي لتحقيق الأرباح، وإنما ترمي من خلاله الصين إلى الهيمنة على الصناعات التكنولوجية الأوروبية على أمل استخدام القوة الابتكارية الأوروبية في هذا المجال لدعم موقعها الاقتصادي عامة وفي الصناعات التكنولوجية خاصة".
في أوائل 2010 كانت استثمارات الصين في أمريكا الشمالية وأوروبا مدفوعة إلى حد كبير بالطلب على الطاقة، وبين 2005 و2019 كان نحو خمس إجمالي الاستثمارات الصينية المباشرة في أمريكا الشمالية وأوروبا أي ما يعادل 130.4 مليار دولار يتركز في قطاع الطاقة، وانصب اهتمام الشركات الصينية على التقنيات المبتكرة لاستخراج النفط والغاز الطبيعي، على أمل استخدام تلك التقنيات لتطبيقها على احتياطيات الصين من الغاز الصخري غير المستغلة إلى حد كبير.
لكن الاستثمارات الصينية في قطاع الطاقة الأوروبي وتحديدا النفط الصخري، بدأت في التراجع بدءا من 2012، حيث بدأت الصين توسيع محفظتها الاستثمارية للتركيز أكثر على عمليات الاستحواذ، التي تهدف إلى زيادة القدرة التنافسية لمصلحة شركاتها.
والعام الماضي وحده قامت خمس شركات تكنولوجيا صينية باستثمارات بلغ مجموعها 1.8 مليار دولار في أمريكا الشمالية وأوروبا، كان أكبرها استثمار 1.3 مليار دولار في إيطاليا من قبل شركة "هواوي".
مقابل هذا النمط الاستثماري مع أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية، فإن الصين تقوم بتوقيع عقود البناء إلى حد كبير مع دول أوروبا الشرقية وروسيا، وخلال الـ 15 عاما الماضية وقعت الصين عقود بناء بقيمة 63.2 مليار دولار في أوروبا ثلثها مع روسيا، وتحديدا في مجال الإنشاءات المتعلقة بخط أنابيب الغاز الطبيعي المعروف باسم "قوة سيبيريا"، الذي يمتد من شرق روسيا إلى الصين.
بدوره، يؤكد لـ"الاقتصادية" البروفيسور روجر ناسان، أستاذ العلوم السياسية في جامعة لندن أن اهتمام الصين بتعزيز استثماراتها في روسيا لا يعد فقط جزءا من اهتمامها بأوروبا، بل في الأساس جزء من الاهتمام بالقارة الآسيوية وأوقيانوسيا، وهي منطقة شاسعة تضم 60 دولة وأكثر من 4.5 مليار نسمة، وهذا العدد من السكان يمتلك 9.5 تريليون دولار من أسهم الاستثمارات الأجنبية المباشرة أي نحو 26.1 في المائة من إجمالي الاستثمارات الأجنبية المباشرة عالميا، وهذا يجعل أعين الصين تنصب على تلك المنطقة من العالم، لدعم استثماراتها المباشرة فيها.
وبالفعل فقد ارتفع الاستثمار الصيني في منطقة آسيا وأوقيانوسيا بشكل مطرد منذ 2005، إذ لم يتجاوز في ذلك الحين حدود 5.7 مليار دولار، لكنه بعد عشرة أعوام من هذا التاريخ قفز إلى نحو 50 مليار دولار، وعلى الرغم من تراجعه بشكل واضح بحلول 2019، حيث اقترب بالكاد من 31 مليار دولار العام الماضي، فإن الصين تخطط لزيادة استثماراتها في القارة الآسيوية عن طريق مشروع الحزام والطريق.
مع هذا يلاحظ أن العلاقات الصينية القوية مع كوريا الجنوبية واليابان لم يتم تعزيزها باستثمارات كبيرة، إذ لم تتجاوز استثمارات الصين المباشرة في دول شرق آسيا حدود 30 مليار دولار، وربما يرجع ذلك إلى افتقار المنطقة للموارد الطبيعية، وهو ما يجعل الاستثمارات الصينية تركز أكثر على قطاعات التمويل والتكنولوجيا والسياحة والعقارات.
ومن الواضح تماما أن حاجة الاقتصاد الصيني المتزايدة للطاقة، تحدد إلى حد كبير نمط استثماراتها الخارجية في منطقة وسط وغرب آسيا، وقد نجح قطاع الطاقة في هذا الجزء من العالم في جذب 88.6 في المائة من إجمالي الاستثمار الأجنبي المباشر للصين في تلك المنطقة، وفي العام الماضي استحوذت الصين في صفقة "سي بان بي سي" على مشروع معالجة الغاز في حقل حلفايا النفطي في العراق، وبلغت قيمة تلك الصفقة نحو 1.1 مليار دولار.
بخلاف المناطق السابقة لا تبدو منطقة أمريكا اللاتينية والبحر الكاريبي، وكأنها تقع ضمن دائرة الاهتمام الاستثماري الصيني.
تقول الباحثة الاقتصادية تريسي جيري، "الصينيون يشعرون أن تلك المنطقة لا تزال حديقة خلفية للولايات المتحدة وحلفائها، والاستثمار المباشر فيها قد يؤدي إلى صدام مع الجانب الأمريكي، فمخزون الاستثمارات الأجنبية المباشرة في المنطقة بلغ العام الماضي تريليوني دولار أي 6 في المائة من إجمالي مخزون الاستثمار الأجنبي المباشر، والصين لا تعد من بين أكبر عشرة مستثمرين في المنطقة، وجميعهم من أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية، وإجمالي استثمارات الصين في بلدان أمريكا الجنوبية لا يزيد على 11 في المائة من إجمالي الاستثمارات المباشرة الخارجية للصين، وتتركز في أربع دول البرازيل وبيرو وتشيلي والأرجنتين، والحصة الأكبر تذهب إلى البرازيل بنحو 60 مليار دولار أي ما يوازي أكثر قليلا من نصف إجمالي الاستثمارات الصينية المباشرة في المنطقة، التي تقدر بـ131 مليار دولار تقريبا".
مع هذا يتوقع أن يتغير المشهد في الأعوام المقبلة، حيث إن هذا العام تم توسيع نطاق مبادرة الحزام والطريق الصينية ووقعت 19 دولة في المنطقة على المبادرة، وينسجم هذا مع تنويع الشركات الصينية استثماراتها في المنطقة.
ويبدو أن مدخل الصين لتعزيز وجودها الاقتصادي في أمريكا اللاتينية ومنطقة الكاريبي سيركز أكثر على عقود البناء وتطوير البنية التحتية، وبين عامي 2005 و2019 وقعت الصين عقود بناء بقيمة 61 مليار دولار، ربع تلك العقود ذهب إلى فنزويلا، وذلك على الرغم من الإدانات الدولية لفنزويلا والأوضاع الاقتصادية المضطربة التي تشهدها البلاد.
على الرغم من حقيقة أن قارة إفريقيا تمثل 16.7 في المائة من سكان العالم، فإن رصيد الاستثمار الأجنبي المباشر الوارد إلى القارة السمراء يبلغ 2.6 في المائة فقط من إجمالي الاستثمارات الدولية المباشرة، وبلغة الأرقام، فإن تلك النسبة لم تبلغ تريليون دولار، وكانت تحديدا 954 مليار دولار العام الماضي.
من جانبه، يقول لـ"الاقتصادية" الدكتور بنجامين برادلي، أستاذ الدراسات الإفريقية في المعهد الدولي للدراسات، "على الرغم من الهجمة الإعلامية الغربية بأن الصين تستولى على القارة السمراء، فإن حقيقة الأمر أن مخزون الاستثمار الأجنبي المباشر الصيني في إفريقيا قبل عامين من الآن لم يتجاوز 46 مليار دولار فقط، واحتلت الصين المرتبة الخامسة كأكبر مستثمر في إفريقيا بعد الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا وهولندا".
ويضيف "لكن هذا لا ينفي أنه في الوقت، الذي تراجعت فيه استثمارات الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا في إفريقيا بين عامي 2014 و2018 بنسبة 30.4 و29.9 و11.7 في المائة على التوالي للبلدان، ارتفعت استثمارات الصين في القارة السمراء خلال الفترة نفسها 44 في المائة تقريبا".
وفي الواقع، فإن المتوسط السنوي للاستثمارات الأجنبية المباشرة المتدفقة على قارة إفريقيا يبلغ أكثر قليلا من 48 مليار دولار، وعلى الرغم من التباين الكبير في الاستثمارات الصينية المباشرة في القارة من عام لآخر إلا أنها تبلغ في المتوسط 6.4 مليار دولار.
وتمثل الاستثمارات المباشرة الصينية في البلدان الإفريقية 7.8 في المائة من إجمالي الاستثمارات الخارجية الصينية بين عامي 2005 و2019.
وتكشف البيانات المتاحة أن الدول العربية في شمال القارة لم تحصل خلال الـ15 عاما الماضية إلا على 6.5 في المائة فقط من إجمالي الاستثمارات الصينية المباشرة الموجه للقارة، مقارنة بـ31.6 في المائة من الاستثمار الأجنبي المباشر العالمي في إفريقيا، بينما تحظى بلدان غرب إفريقيا باهتمام صيني واضح، حيث حصلت على ثلث إجمالي الاستثمار المباشر الصيني لإفريقيا.
ويعلق الخبير الاستثماري جوردن ديكلن على ذلك بالقول، "استثمارات الصين المباشرة في القارة الإفريقية مركزة في ثلاثة بلدان نيجيريا وجنوب إفريقيا وجمهورية الكونغو الديمقراطية، وأكبر استثمار قامت به الصين في البلدان الثلاثة كان في نيجيريا العام قبل الماضي، وذلك في إطار مبادرة الحزام والطريق، حيث عقدت صفقة بقيمة 5.8 مليار دولار لإنشاء محطة للطاقة الكهرومائية".
ويضيف، "وفقا لصندوق النقد الدولي هناك 28 دولة إفريقية مصنفة بصفتها غنية بالموارد، ما يجعل القارة نقطة جذب للاستثمارات الصينية في مجال الطاقة والمعادن، ونحو 37.9 في المائة من الاستثمارات الصينية في القارة السمراء يوجه إلى مجال الطاقة".
لكن ديكلن يرى أن قوة الوجود الصيني في القارة السمراء لا ترتبط كثيرا بالاستثمارات المباشرة بقدر ارتباطها بعقود البناء، وفي مجال البنية التحتية، فإن إفريقيا تمثل أولوية أولى للصين.
وبالفعل، فإن الصين وقعت خلال الـ15 عاما الماضية وهي الفترة الممتدة من 2005 و2020 نحو 544 عقد بناء في قارة إفريقيا بقيمة تصل إلى 267.7 مليار دولار، أي ما يعادل ثلث القيمة الإجمالية لمشاريع البناء الصينية في جميع أنحاء العالم.
وتبلغ قيمة عقود البناء، التي توقعها الصين في إفريقيا في المتوسط سنويا نحو 24 مليار دولار، وعلى الرغم من أن هذا المتوسط انخفض العام الماضي إلى 20.7 مليار دولار فقط، إلا أن الانخفاض يتماشى مع التباطؤ العام في الاستثمار الصيني ونشاط البناء الخارجي، الذي صاحب تراجع الإقراض الخارجي. ويتوقع أن تشهد عقود البناء في الصينية في إفريقيا انخفاضا أيضا هذا العام نتيجة تفشي وباء كورونا في الصين وفي عدد من البلدان الإفريقية.
ولم تحول التوترات السياسية والاقتصادية بين الصين وأستراليا أن تظل أستراليا ثاني أكبر متلق للاستثمار الأجنبي المباشر الصيني بعد الولايات المتحدة.
يقول لـ"الاقتصادية" الدكتور بنيامين أدون الأستاذ السابق في جامعة شنغهاي وأستاذ التجارة الدولية في جامعة ليدز، "غنى أستراليا بالمعادن وقربها النسبي من الصين يجعلها تتبوأ أهمية خاصة لدى الصين، حيث بلغ إجمالي الاستثمارات الصينية المباشرة نحو 70 مليار دولار خلال العقد ونصف العقد الماضي، لكن تباين المواقف السياسية والاقتصادية بين الطرفين يحول دون أن تحتل الاستثمارات الصينية المباشرة المكانة الأولى في أستراليا، إذ لا تشكل تلك الاستثمارات أكثر من 2 في المائة من إجمالي الاستثمار الأجنبي المباشر في أستراليا، بينما تحتل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة المرتبة الأولى والثانية بنسبة 26 و18 في المائة تقريبا على التوالي".

الأكثر قراءة