الأحد, 11 مايو 2025 | 13 ذو القَعْدةِ 1446


مؤسسات الأعمال المملوكة للدولة .. أهمية متنامية

تخضع جميع مؤسسات الأعمال لقوانين وتشريعات الدول التي تعمل فيها، لكن ملكية هذه المؤسسات والتمكن من حوكمتها وتوجيهها أمر آخر تستطيع الدول التأثير فيه بأساليب مختلفة تبعا لخططها ومسيرة التنمية فيها. فرغم أن معظم مؤسسات الأعمال مملوكة للقطاع الخاص في الدول المختلفة، إلا أن بعضها مملوك كليا أو جزئيا للدولة، ويطلق على هذه المؤسسات عادة تعبير المؤسسات المملوكة للدولة SOES. وأعطت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD تعريفا عاما لهذه المؤسسات، يقول التالي: إنها مؤسسات موثقة قانونيا في الدولة المعنية كمؤسسات أعمال، ويكون للدولة فيها تأثير المالك الذي قد يملكها كليا، أو يملك معظمها، أو يملك جزءا مهما مؤثرا منها.
تحدثنا عن هذه المؤسسات ودورها في التنمية في مقال سابق نشر على هذه الصفحة في شباط (فبراير) الماضي، حيث اهتم المقال بحقيقة أن التركيز الاستراتيجي لهذه المؤسسات لا يكون على تحقيق الأرباح فقط، بل على إيجاد وتقديم قيمة اجتماعية أيضا. وبين المقال أن المؤسسات غير المملوكة للدولة تقوم فعلا بإسهام اجتماعي، وتهتم بمتطلبات وثيقة المنظمة الدولية للمعايير ISO الخاصة بالمسؤولية الاجتماعية للمؤسسات، المعروفة بالرمز ISO 26000، لكنه أوضح أيضا أن هذا الجانب يبقى محدودا مقارنة بما تسعى المؤسسات المملوكة للدولة إليه، حيث يحظى الجانب الاجتماعي بأهمية قصوى لهذه المؤسسات لا تقل عن الجانب الربحي، بل لعلها تزيد.
نعود في هذا المقال إلى موضوع المؤسسات المملوكة للدولة لطرح مزيد بشأنها، خصوصا أنها تلقى نموا لافتا في دول العالم المختلفة، لأنها وسيلة مهمة للتنمية المستدامة المطلوبة، فالأرباح المادية وحدها ليست كافية للتنمية ما لم تترافق مع تنمية الإنسان والمجتمع والاستجابة لمتطلبات المستقبل. وسنطرح هذا الأمر فيما يلي باستخدام معطيات بحث أوسع نطاقا حول الموضوع تم نشره أخيرا في مجلة علمية هي المجلة الدولية للتعليم الذكي والمجتمع المدني International Journal of Smart Education and Urban Society IJSEUS. وقام كاتب هذا المقال بالمشاركة في إعداد هذا البحث مع الدكتور خالد الغنيم، أحد رواد مؤسسات الأعمال المملوكة للدولة في المملكة، حيث عمل سابقا رئيسا تنفيذيا لكل من شركتي العلم والاتصالات السعودية، وهما من المؤسسات السعودية المهمة المملوكة للدولة.
تقول الإحصائيات: إن أعداد المؤسسات المملوكة للدولة حول العالم في تزايد مستمر، خصوصا في الصين التي تسعى إلى نمو متسارع يضعها في المركز الأول اقتصاديا على مستوى العالم. ففي تقرير استطلاعي للمنتدى الاقتصادي الدولي WEF نشر عام 2019، بلغ عدد مؤسسات الأعمال الصينية الكبرى ضمن أهم 500 مؤسسة أعمال في العالم 109 مؤسسات صينية، وبلغت نسبة المؤسسات المملوكة للدولة جزئيا أو كليا بين هذه المؤسسات 85 في المائة. وعدّ تقرير آخر نشرته بوابة البحث Research Gate عام 2020، أن الدافع الرئيس للتنمية المتصاعدة التي تشهدها الصين يعود إلى المؤسسات الصينية المملوكة للدولة، وبالطبع جزئيا أو كليا.
ورصدت وثيقة، صادرة عام 2017 عن صندوق النقد الدولي IMF، أعداد المؤسسات المملوكة للدولة في دول العالم، لتجد أن كلا من بولندا والسويد تتميزان في ذلك، بالنسبة إلى عدد السكان فيهما. ففي بولندا، حيث يبلغ عدد السكان 38 مليون نسمة، تجاوز عدد هذه المؤسسات ألفي مؤسسة، وفي السويد، حيث عدد السكان عشرة ملايين، وصل عدد هذه المؤسسات إلى نحو 1700 مؤسسة. وتجدر الإشارة إلى أن المملكة كانت من رواد مؤسسات الأعمال المملوكة للدولة جزئيا أو كليا، فشركة الطيران السعودية أسست عام 1963، وأعقبتها الشركة السعودية للصناعات الأساسية: سابك عام 1976، وتلتها تدريجيا مؤسسات عديدة، على رأسها شركات الاتصالات، والكهرباء، والمياه، وغيرها، فضلا بالطبع عن الشركة الكبرى أرامكو التي تتمتع بمكانة متقدمة بين أهم الشركات على مستوى العالم.
تلجأ الدول إلى إنشاء مؤسسات أعمال تملكها كليا أو جزئيا، لسببين رئيسين: السبب الرئيس الأول هو التخلص من الأنظمة العامة والضوابط المختلفة التي تحيط بالإجراءات الحكومية المطبقة على جميع المجالات، والسماح بالتالي لهذه المؤسسات بالقيام بوضع الأنظمة المناسبة لقطاعات عملها، بما يؤدي إلى تفعيل العمل والقدرة على المنافسة في هذا القطاعات، سواء على المستويين المحلي، أو الدولي. أما السبب الرئيس الثاني فيكمن في اختيار قطاعات العمل المناسبة التي يجب أن تتميز بثلاث خصائص رئيسة، وتشمل هذه الخصائص: تأمين مردود ربحي مناسب، وتحقيق فوائد اجتماعية مطلوبة، إضافة إلى الاستجابة لمتطلبات التقدم التقني المتسارع الذي يشهده العالم. ولا تنفصل هذه الخصائص عن بعضها بعضا، بل تتداخل لتسهم معا في تفعيل التنمية وتعزيز استدامتها.
إذا نظرنا إلى الفوائد الاجتماعية التي تميز المؤسسات المملوكة للدولة نجد أنها تتضمن ثلاثة جوانب أساسية: هناك جانب بيئي يختص بالحرص على نظافة الهواء، ونقاء الماء، وعدم الإضرار بالمناخ، والمحافظة على الطبيعة المحيطة التي منحها الله للإنسان، ليس على مستوى الأوطان فقط، بل على مستوى العالم بأسره. وهناك جانب يرتبط بالخدمات العامة التي يحتاج إليها الإنسان، مثل الخدمات الصحية والتعليمية، وخدمات المياه والطاقة، ومثل الخدمات المتعلقة بسوق العمل، وتوظيف اليد العاملة والاستفادة منها على أفضل وجه ممكن في أداء الأعمال المختلفة. ثم هناك جانب ثالث يختص بالتخطيط للمستقبل والسعي إلى استدامة الاهتمام بكل من الجانب البيئي وجانب الخدمات العامة. ويتداخل هذا التخطيط مع خاصية متطلبات التقدم التقني المتسارع الذي يشهده العالم سابقة الذكر.
يمكن النظر إلى مؤسسات الأعمال المملوكة للدولة، كليا أو جزئيا، على أنها وسائل تستخدم للإسهام في تعزيز حوكمة الدول وتفعيل إدارة معطياتها، في القطاعات الحيوية، من أجل المحافظة على بيئة سليمة، والسعي إلى تفعيل الخدمات التي يحتاج إليها المجتمع، والاستعداد المتواصل للمستقبل، إضافة بالطبع إلى المنافسة وتحقيق الأرباح، سواء في الإطار المحلي أو على المستوى الدولي.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي