الإصلاح الاقتصادي والسياسي .. أمريكا إلى أين؟
كان الهجوم على مبنى الكونجرس الأمريكي - الكابيتول، نتيجة متوقعة، بمساعدة وتحريض من عديد من أعضاء الحزب الجمهوري. كان كثيرون من أولئك الذين استفادوا من خفض الضرائب المفروضة على الشركات والأثرياء، وتخفيف الضوابط التنظيمية البيئية، وتعيين قضاة يحابون عالم الأعمال، يعلمون أنهم كانوا يعقدون حلفا مع الشيطان. فهم إما أنهم تصوروا أنهم قادرون على السيطرة على القوى المتطرفة، أو أنهم لم يبالوا بذلك. ترى إلى أين تذهب أمريكا من هنا؟ هل هذا الهجوم يشكل انحرافا شاذا، أو عرضا لاعتلال وطني أشد عمقا؟ هل يستطيع العالم أن يثق بالولايات المتحدة؟ وهل تنتصر هذه القوى من جديد مرة أخرى بعد أربعة أعوام؟ وما الذي يمكن القيام به لمنع هذه النتيجة؟
الواقع، أن هذا الوضع هو نتاج لقوى متعددة. فعلى مدار ما لا يقل عن ربع قرن من الزمن، أدرك الحزب الجمهوري أنه لا يستطيع تمثيل مصالح نخب الأعمال إلا من خلال تبني تدابير مناهضة للديمقراطية (بما في ذلك قمع الناخبين والتلاعب في توزيع الدوائر الانتخابية) والتضامن مع حلفاء من أمثال الأصوليين الدينيين، والمؤمنين بتفوق الجنس الأبيض، والشعبويين القوميين.
بطبيعة الحال، تنطوي الشعبوية ضمنا على سياسات تتعارض مع مصالح نخب الأعمال. لكن عديدا من قادة الأعمال أنفقوا عقودا من الزمن في إتقان القدرة على خداع عامة الناس. فقد أنفقت شركات التبغ الكبرى بسخاء على المحامين والعلوم الزائفة لإنكار الآثار الصحية الضارة المترتبة على منتجاتها. وفعلت شركات النفط الضخمة الشيء ذاته لإنكار مساهمة الوقود الأحفوري في تغير المناخ.
ثم زودهم التقدم التكنولوجي بأداة للنشر السريع للمعلومات الخاطئة / المضللة، وسمح النظام السياسي في أمريكا، حيث السيادة للمال، لشركات التكنولوجيا العملاقة بالتحرر من المساءلة. كما فعل هذا النظام السياسي شيئا آخر: فقد عمل على توليد مجموعة من السياسات (يشار إليها أحيانا بوصف النيوليبرالية) التي قدمت مكاسب هائلة في الدخل والثروة لأولئك على القمة، ولكن شبه الركود في كل مكان آخر. وسرعان ما أصبحت الدولة التي تحتل صدارة التقدم العلمي تتسم بتراجع متوسط العمر المتوقع واتساع فجوات التفاوت في الصحة.
كان الوعد النيوليبرالي بأن مكاسب الثروة والدخل ستتقاطر إلى أسفل ليستفيد منها أولئك الذين عند القاع زائفا في الأساس. لقد تسببت تغييرات بنيوية هائلة في انحسار التصنيع في أجزاء كبيرة من الولايات المتحدة، وترك أولئك الذين نبذوا بالعراء يتدبرون أمورهم بأنفسهم إلى حد كبير. كما حذرت في كتابيّ "ثمن الظلم" و"الشعب والسلطة والأرباح"، من أن هذا المزيج السام أتاح فرصة مغرية لكل راغب في أن يصبح زعيما للدهماء.
كما رأينا مرارا وتكرارا، أن روح المبادرة التجارية بين الأمريكيين، مقترنة بالافتقار إلى القيود الأخلاقية، توفر مددا وافرا من الدجالين، والمستغلين، وزعماء الدهماء. لكن لا ينبغي لنا أن نستسلم للشعور بالارتياح قبل أن تعالج المشكلات الأساسية. وكثير منها ينطوي على تحديات عظمى. يتعين علينا أن نحرص على التوفيق بين حرية التعبير والمساءلة عن الضرر الجسيم الذي قد تتسبب وسائط التواصل الاجتماعي في إحداثه، والذي أحدثته بالفعل، من التحريض على العنف والترويج للكراهية العرقية والدينية إلى التلاعب السياسي.
منذ فترة طويلة، فرضت الولايات المتحدة ودول أخرى قيودا على أشكال تعبير أخرى بما يعكس مخاوف مجتمعية أعرض اتساعا: فلا يجوز لأحد أن يصرخ محذرا من حريق في مسرح مزدحم بالناس، أو يشارك في صناعة مواد مخلة للأطفال، أو يرتكب جريمة القذف والتشهير. صحيح أن بعض الأنظمة الاستبدادية تسيء استخدام مثل هذه القيود على النحو الذي يعرض الحريات الأساسية للخطر، لكن الأنظمة الاستبدادية ستظل دوما قادرة على إيجاد المبررات لأفعالها وتصرفاتها وفقا لهواها، بصرف النظر عما تفعله الحكومات الديمقراطية.
يتعين علينا كأمريكيين أن نعكف على إصلاح نظامنا السياسي، لضمان الحق الأساسي في التصويت والتمثيل الديمقراطي. ونحن في احتياج إلى قانون جديد يكفل حقوق التصويت. كان القانون القديم، الذي بدأ العمل به في 1965، موجها إلى الجنوب، حيث أدى حرمان الأمريكيين من أصل إفريقي من حقوقهم، إلى تمكين النخب من ذوي البشرة البيضاء من البقاء في السلطة منذ نهاية إعادة البناء في أعقاب الحرب الأهلية. ولكن الآن باتت الممارسات المناهضة للديمقراطية منتشرة في مختلف أنحاء البلاد. نحتاج أيضا إلى تقليص تأثير المال في سياستنا: فمن غير الممكن أن يقوم أي نظام من الضوابط والتوازنات بوظيفته بشكل فعال في مجتمع شديد التفاوت كمجتمع الولايات المتحدة. وأي نظام قائم على شعار "دولار واحد، صوت واحد" بدلا من "شخص واحد، صوت واحد"، سيكون عـرضة لمخاطر الدهماوية الشعبوية. فكيف لنظام كهذا أن يخدم مصالح البلاد ككل؟
أخيرا، يتعين علينا أن نعالج الأبعاد المتعددة لمشكلة التفاوت. الحق، أن التباين الشديد بين معاملة المتمردين من ذوي البشرة البيضاء الذين غزوا مبنى الكونجرس ومعاملة المحتجين المسالمين الذين حملوا شعار "حياة السود تهم" هذا الصيف أظهر مرة أخرى لكل الشعوب في مختلف أنحاء العالم حجم الظلم العنصري في أمريكا. علاوة على ذلك، أبرزت جائحة مرض فيروس كورونا في 2019 - كوفيد - 19 حجم التفاوت الاقتصادي والصحي في البلاد. كما زعمت مرارا وتكرارا، لن يكون إدخال تعديلات صغيرة على النظام كافيا لإحداث تقدم كبير على مسار علاج أشكال التفاوت المتأصلة في البلاد.
الواقع، أن الكيفية التي سترد بها أمريكا على الهجوم على مبنى الكونجرس ستنبئنا بالكثير عن الاتجاه الذي تسلكه البلاد. وشرعنا أيضا في السير على الطريق نحو الإصلاح الاقتصادي والسياسي الصعب لمعالجة المشكلات الأساسية التي ظهرت خلال الفترة الماضية، وسيظل الأمل قائما في مستقبل أكثر إشراقا. وما يدعو إلى التفاؤل أن جو بايدن سيتولى الرئاسة في الـ20 من كانون الثاني (يناير). لكن الأمر يتطلب أكثر من مجرد شخص واحد ــ وأكثر من فترة رئاسية واحدة ــ للتغلب على التحديات التي تواجه أمريكا منذ أمد بعيد.
خاص بـ «الاقتصادية»
بروجيكت سنديكيت، 2021.