«الأشياء الصغيرة» .. ترويكا تمثيلية ناجحة لحبكة مستهلكة
تحتل أفلام "الجريمة والغموض والتشويق" مكانة خاصة عند عديد من محبي الأفلام السينمائية الذين يتوقون إلى المواجهات الشرسة بعيدا عن الذبذبات التقنية والتطور العلمي والنفحات الدرامية، فيتوثب المشاهد على اختيار أفلام مشوقة بأحداثها غير المتوقعة وأداء الممثلين الذين يعصفون بخبرتهم وحركتهم الآسرة في كثير من الأحيان، وكيف إذا ما اجتمع ترويكا "ثلاثي" من أعرق الممثلين لأداء فيلم "الأشياء الصغيرة" The little thing، فهل يروي ظمأ المتلهفين إلى أفلام الحركة والإثارة؟!
المستقبل يستحضر الماضي
يجتاح العملاق الأسمر الممثل الأمريكي دنزل واشنطن الشاشة بمعية كل من الممثل المصري الأمريكي رامي مالك والممثل جاريد ليتو، فيقدمون فيلما تدور أحداثه في العالم الإجرامي السفلي في لوس أنجلوس عام 1990، وتتمحور قصته حول محققين تجمعهما المصادفة للبحث والعثور على مجرم يقوم بجرائم قتل فتيات شابات بطريقة شنيعة، يدعى "ألبرت" يؤدي دوره جاريد ليتو، أحد هذين المحققين شرطي مبتدئ يدعى جيم باكستر، يؤدي دوره رامي مالك، والآخر يدعى جو ديكن يؤدي دوره دنزل واشنطن، الذي يتمتع بخبرة عريقة في مجال التحقيق تمكنه من رؤية تفاصيل صغيرة لا يراها كثيرون تقوده إلى هدفه، لكن هذه المرة بما أن هذه القضية جاءت صدفة، فسيجد صعوبة في فك ألغاز هذه الجرائم والقبض على القاتل خصوصا أن ماضيه الغامض الذي يحاول الهرب منه سيلعب لعبته ويقف له عائقا، ومع تطور الأحداث يكتشف المشاهد معضلة الماضي عند ديكن، حيث كان محققا رفيع المستوى، لكنه تراجع إلى الصفوف الخلفية ليعمل شرطيا في إحدى المدن الصغيرة عقب فشله في حل جريمة قتل مشابهة منذ أعوام. يتقارب كل من ديكن وجيم ويكتشفان كثيرا من الصفات المشتركة بينهما على الرغم من التناقض الظاهري، خاصة عندما يشتبهان في ألبرت أنه قاتل، ليبدأ جيم في التحول إلى نسخة جديدة من ديكن، بكل أخطائه السابقة ومزاياه كذلك.
خلل في الحبكة
على الرغم من اجتماع ثلاثة من أهم الممثلين الحائزين الأوسكار، في حبكة للمؤلف والمخرج جون لي هانكوك، إلا أن العمل يشوبه كثير من السلبيات، فالبداية كانت مملة جدا ولم تعط تشويقا وغموضا كما كان متوقعا، وكما جرت العادة في أفلام القاتل المتسلسل، لكن عند منتصف الأحداث يبدأ الحماس والترقب يرتفعان خصوصا عندما تلتقي الشخصيات الرئيسة الثلاث، وتنظر إلى كل تلك "الكاريزمات" تتحاذق على بعضها، وكل واحدة تحاول فك شفرة الأخرى، لوهلة تشعر أن الفيلم بدأ يسلك سكته الصحيحة، فيتبادر إلى ذهنك أنك ستخرج منه تماما كما خرجت من فيلم الجريمة Training Day الذي صدر عام 2001 للممثل دنزل واشنطن، أو فيلم الجريمة والتحقيق الآخر Seven للنجم براد بيت الذي صدر 1995 اللذين قدما إحدى أفضل قصص الجريمة على الإطلاق، لكنك تفاجأ بأن شدة الحبكة بدأت تتلاشى حتى النهاية بدون تشويق أو إثارة أو أي شيء يؤهله لأن يكون فيلم تحقيق وغموض. وفي الوقت عينه طرح كاتب السيناريو فكرة أساسية لم تظهر إلا في المشاهد النهائية غير المتوقعة، حيث إن القاتل تم قتله بالخطأ على يد جيم، ليأتي بعدها ديكن وينصحه بإخفاء معالم الجريمة وكأن شيئا لم يكن، قال له "الأشياء الصغيرة من الممكن أن تفتك بنا وتنهينا"، وبهذه العبارة أوصل الكاتب والمخرج فكرة الفيلم بطريقة مباشرة من دون أي إيحاءات أخرى، وهنا يكمن الخلل، حيث إنه من الممتع مشاهدة الفيلم والغوص في أعماقه لانتشال المغزى منه، وليس تلقين المشاهد حرفيا به كأفلام الأطفال، وفي الختام أرسل له ورقة مكتوب عليها "لسنا ملائكة".
ممثلون عمالقة لإخفاء العيوب
بما أن القصة لا ترتقى إلى مستوى النجوم الثلاثة في الفيلم، فهذا يعني أن التركيز بهدف النجاح جاء على الشخصيات، بدلا من الأحداث والحبكة التي من المفترض أن تكون تشويقية أكثر، فشخصية جو هادئة جدا، رزينة، ثابتة الخطى، وهذا ما اعتدنا على مشاهدته من دنزل واشنطن، فلقد عانى كثيرا في حياته، أما جيم فيسلك طريق جو في شبابه، كل واحد منهما هو امتداد للآخر، وليس صورة له، وخلال الأحداث نجد أن جو يحاول بشتى الطرق ألا يجعل جيم مثله، فهو شاب واعد ومستقبله مشرق، بينما جو عجوز شارف على التقاعد على الرغم من اتقاد ذهنه واشتعال جذوته، لكنه في النهاية شعر بدور الأب تجاه جيم، وكان عليه حمايته، وهذا ما حصل في المشاهد الأخيرة. ولقد ظهر جيم بشخصية تتوافق مع شخصيته الأساسية، تماما كما فعل في فيلم Mr. Robot الذي أبدع فيه نظرا إلى توافق الدور مع شخصيته الواقعية، كما في فيلم Bohemian Rhapsody الذي أدى فيه دورا ملحميا بارعا.
أما الشخصية الثالثة، وهي المشتبه فيه الأول في الأحداث، فهي شخصية غريبة الأطوار، تعاني اضطرابات نفسية، ولقد قدم جاريد ليتو واحدا من أروع الأدوار في مسيرته، شخصية ذلك القاتل المتسلسل الذي يعرف ماذا يفعل ولا يهاب من المحقق الذي يتربص به وينتظره أن يخطئ لينقض عليه، بدون عيب إطلاقا رسم لنا صورة القاتل المتسلسل بأداء خرافي مختلف تماما عن أي شيء قدمه من قبل في مسيرته الفنية.
ضربات إخراجية موفقة ولكن...
لم يكن الإخراج أفضل حالا من الحبكة، فجميع الزوايا التي تم التصوير منها كانت بعيدة عن الابتكار، وعلى الرغم من وجود مشاهد مميزة إلا أنها ضئيلة نوعا ما، لكن المخرج أبدع في إظهار الحالة النفسية للمثلين من خلال الألوان، إن كانت ألوان الدم أو الألوان الأخرى، ففي أحد المشاهد كان جو جالسا في غرفة الفندق يفكر في ضحايا الماضي، وصُبغت الغرفة بالأخضر. إنه اللون الذي يرمز إلى المرض في السينما، ويعني أن جو "مريض" بأنواء الماضي التي لا تنفك تعصف به كل ليلة.
تجدر الإشارة إلى أن الفيلم، الذي أنتجته "وارنرز بروس" وعرض على منصة HBO Max، تصدر إيرادات السينما في أمريكا الشمالية، مسجلا 2.1 مليون دولار في الأسبوع الثاني من العرض، وفي الخارج، جمع الفيلم 1.4 مليون دولار في مبيعات التذاكر في 20 دولة، ليحقق في المجمل 7.8 مليون دولار في الولايات المتحدة وكندا و5.2 مليون دولار عالميا حتى اليوم، وبحسب وارنرز فان الفيلم سجل أكبر ظهور محلي لفيلم من فئة R منذ بدء وباء كورونا، في حين لم تكشف HBO Max عن أرقام المشاهدة للفيلم.