تحسين بيئة العمل في منشآت القطاع الخاص
في الوقت الذي تؤكد احتياجات الاقتصاد والمجتمع خلاله رفع معدلات التوطين في القطاع الخاص، والأهمية القصوى لزيادة تمكين الموارد البشرية من إشغال فرص العمل المتوافرة في منشآت القطاع، وما لذلك من أهمية تنموية في اتجاه خفض معدل البطالة بين القوة العاملة الوطنية، فإن لجانب العمل وبذل الجهود لأجل استقرار العمالة الوطنية في وظائفها الراهنة، القدر نفسه من الأهمية، إن لم تكن أعلى مما تقدم ذكره في بداية هذا الحديث. يأتي التركيز على هذا الجانب قياسا على ما كشفت إحصاءات سوق العمل الصادرة عن الهيئة العامة للإحصاء طوال فترة الثلاثة أرباع الأولى من 2020، حول بيانات المتوقفين عن الاشتراك في المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية وسبب التوقف، وهي نفسها الأسباب التي تعني انتهاء العلاقة التعاقدية بين المنشأة والعامل فيها، وصل إجمالي أعدادهم بالنسبة للسعوديين خلال الفترة إلى أكثر من 478.4 ألف عامل "26.4 في المائة من إجمالي العمالة الوطنية في القطاع الخاص بنهاية الربع الثالث 2020".
وبالنظر في تفاصيل تلك الأسباب، تبين أن أول وأكبر ستة أسباب وقفت خلف توقف العمل بالنسبة للعمالة الوطنية، وشكلت في مجموعها كأعداد نحو 451 ألف عامل، وبما وصلت نسبته إلى 94.3 في المائة من إجمالي المتوقفين عن العمل طوال الفترة، جاء في المرتبة الأولى: استقالة العامل "286 ألف عامل، بنسبة 59.8 في المائة من الإجمالي"، وفي المرتبة الثانية: انتهاء عقد العمل "88.1 ألف عامل، بنسبة 18.4 في المائة من الإجمالي"، وفي المرتبة الثالثة: فسخ العقد بموجب المادة "80" من نظام العمل "36.1 ألف عامل، بنسبة 7.5 في المائة من الإجمالي"، وفي المرتبة الرابعة: إعادة هيكلة المنشأة "20.9 ألف عامل، بنسبة 4.4 في المائة من الإجمالي"، وفي المرتبة الخامسة: النقل بين فروع المنشأة "10.7 ألف عامل، بنسبة 2.2 في المائة"، وأخيرا في المرتبة السادسة: الفصل بموجب المادة "77" من نظام العمل "9.2 ألف عامل، بنسبة 1.9 في المائة من الإجمالي".
يعد البحث ودراسة تفاصيل كل سبب من الأسباب الموضحة أعلاه، إضافة إلى بقية الأسباب الأخرى كل منها على حدة، أمرا لا بد من القيام به من قبل وزارة الموارد البشرية، وهي الجهود التي ستثمر بكل تأكيد عن حقائق ومعلومات بالغة الأهمية إلى أعلى قدر، يمكن بناء عليها الارتقاء بدرجات أكبر من الكفاءة فيما يتعلق ببرامج وسياسات التوطين، وبما سيؤدي إلى سد كثير من الفجوات أو الاختلالات التي وقفت خلف هذا العدد الكبير من فقدان العمالة الوطنية وظائفها، أو حتى تخليها عن المحافظة عليها.
إن من أهم المعلومات التي ستحصل عليها وزارة الموارد البشرية في هذا الخصوص، وفي أثناء عملها البحثي والتقصي بعمق أكبر في تلك الأسباب، بالاعتماد على توفير قنوات معلوماتية بينها وبين كل من المنشآت من جانب، ومن جانب آخر العمالة الوطنية التي توقفت عن العمل لأي سبب كان، وأن تتمتع تلك القنوات للتواصل بالسهولة الكافية، وقد تجد الوزارة أن اختلافا قد يحدث في تلك المعلومات المقدمة من كلا الطرفين، وهو الأمر الذي متى ما حدث فإنه سيقود بالبحث والتأكد إلى معرفة الأسباب الفعلية التي أدت إلى نهاية التعاقد بين الطرفين، وبناء عليه ستتمكن الوزارة من تحسين وتطوير برامجها وإجراءاتها الرقابية بكل تأكيد، وسيؤدي لاحقا إلى معالجة أغلب أوجه القصور، إن وجدت، ويرفع من كفاءة جهودها الإشرافية والرقابية على سوق العمل عموما، وبيئة العمل في منشآت القطاع الخاص خصوصا.
إن ارتفاع تاركي العمل من العمالة الوطنية بداعي الاستقالة إلى نحو 286 ألف عامل، وبما يمثل ما نسبته 59.8 في المائة من إجمالي المتوقفين عن العمل، في الوقت ذاته الذي يشهد طلبا مرتفعا مطردا من الموارد البشرية الوطنية الباحثة عن عمل، إنه بالتأكيد لأمر يستدعي البحث والدراسة والتقصي من قبل وزارة الموارد البشرية، وأن يتم الدخول في عمق هذه الحالة اللافتة، والعمل الدؤوب والدقيق جدا لأجل التعرف على الأسباب غير الظاهرة لهذا المعدل المرتفع من عدد الاستقالات من قبل العمالة الوطنية، وهل كانت صادرة فعليا عن قناعة تامة من قبل المستقيلين والمستقيلات عن العمل؟ وأنها في الأغلب جاءت لحصولهم على وظائف أخرى أفضل في مواقع وظيفية أخرى؟ أو أنها جاءت نتيجة لضغوط وصعوبات واجهوها في مقار أعمالهم؟ وغير هذا من الأسباب التي لم تسطر على خطابات طلب الاستقالة، وقبولها من لدن المديرين في تلك المنشآت.
لا بد من الاهتمام بالقدر الكافي وبذله في اتجاه العمل على استقرار واستدامة العمالة الوطنية في وظائفها الراهنة، وأن يأتي بالقدر نفسه أو أكبر الذي يتم في اتجاه العمل على زيادة دخول وتوظيف العمالة الوطنية، وهو الأمر الذي ستصب نتائجه الإيجابية في مصلحة الأطراف كافة، بدءا من المنشأة التي ستحظى بمحافظتها على مواردها البشرية العاملة، وتخفيض معدلات عدم استقرار العمالة فيها، مرورا بالعامل نفسه من خلال توفير بيئة العمل المناسبة له، وحمايته من أي ممارسات تعسفية قد يتعرض لها من أي طرف آخر، وانتهاء بوزارة الموارد البشرية نفسها، التي ستجني استقرارا أكبر في سوق العمل المحلية، ويترجم بصورة أفضل وأكفأ مخرجات برامج وسياسات التوطين القائمة على تنفيذها، وكل هذا ستصب نتائجه النهائية في مصلحة استقرار الاقتصاد الوطني عموما، وبيئة القطاع الخاص خصوصا. إن المأمول من وزارة الموارد البشرية في هذا الخصوص، أن تبادر بتوفير وتطوير قنوات تواصل معلوماتية متقدمة وسهلة الاستخدام، بينها وبين عموم الموارد البشرية العاملة في مختلف قطاعات سوق العمل المحلية، يمكن من خلال تلك القنوات للعمالة وللمنشآت تقديم أي بلاغات أو معلومات مهمة، خاصة تلك المعلومات المتعلقة ببيئة العمل في منشآت القطاع الخاص، وبما يكفل تحسينها ورفع جودتها، وأهمية أن تخلو من أي ممارسات مخالفة من أي نوع كان، قد تقع عواقبها وآثارها العكسية على أي من الأطراف ذوي العلاقة، سواء كانت المنشأة أو كانت العمالة.