التقارب الأوروبي مع الاتحاد الاقتصادي الأوروآسيوي يواجه مطامع صينية وموافقة أمريكية
قليل من المعنيين بالشأن الاقتصادي يلقون بالا أو يبدون اهتماما بالاتحاد الاقتصادي الأوروآسيوي
الاتحاد منظمة حديثة العهد نسبيا عند مقارنتها باتحادات اقتصادية أقدم عهدا وأرسخ وجودا وأكثر قوة وأوسع نطاقا مثل الاتحاد الأوروبي على سبيل المثال، لكنه وفقا لمعايير أخرى اتحاد اقتصادي لا تجب الاستهانة بقدراته، وما يتمتع به من إمكانات، وما يحمله من آفاق اقتصادية واعدة على الأقل لأعضائه.
الاتحاد الاقتصادي الأوروآسيوي لم يكن إلا وليد اقتراح من قبل رئيس كازخستان السابق نور سلطان نزارباييف، بهدف تعزيز أواصر الروابط الاقتصادية بين بلاده وروسيا وبيلاروسيا، عبر اتحاد اقتصادي دولي ومنطقة تجارة حرة تتسع مستقبلا لتضم دولا تقع في وسط وشمال آسيا وأوروبا الشرقية، وبما يسهم في تنظيم التنافسية الاقتصادية بين الدول الأعضاء ورفع مستوى معيشة شعوبها.
في هذا الإطار وقعت الدول الأعضاء المؤسسة روسيا وبيلاروسيا وكازاخستان، معاهدة في عام 2014 لإنشاء الاتحاد وفي الأول من كانون الثاني (يناير) عام 2015 دخلت حيز التنفيذ، لكن الاتحاد لم يقف عند الدول الثلاث، إذ توسع لاحقا وانضمت إليه أرمينيا وقيرغيزستان.
راهن الآباء المؤسسون للاتحاد على مجموعة من عوامل القوة الداخلية، حيث يضم الاتحاد بين طياته ما يقرب من 200 مليون نسمة ليوجد بذلك سوقا جيدة الحجم، مدعومة بناتج محلي مشترك يتجاوز خمسة تريليونات دولار أمريكي.
كما راهنت الدول الأعضاء على أن هذا التكتل وما تمتلكه الدول الأعضاء من قدرات اقتصادية قوية في مجال الطاقة والمواد الخام، يمكن أن يصبح شريكا تجاريا مهما للاتحاد الأوروبي، وسادت في الأروقة أفكار من قبيل إنشاء منطقة تجارة حرة بين التكتلين تمتد من لشبونة في إسبانيا إلى فلادفوستوك في شرق روسيا.
تظهر المفارقة بشأن أفق التعاون بين الاتحاد الأوروبي ونظيره الأوروآسيوي، أن تلك الرغبة لم تكن من جانب واحد، بل سادت أيضا لدى بعض اللاعبين الرئيسين في الاتحاد الأوروبي الذين راهنوا على أهمية تعزيز العلاقات المباشرة بين الكتلتين، مع الدفع في اتجاه إنشاء منطقة تجارة حرة بينهما، على أمل أن يبدد التحرك في المسار الاقتصادي التوترات الجيو-سياسية بين الطرفين.
ألمانيا وفرنسا اللتان تعدان القاطرة المشتركة التي تقود الاتحاد الأوروبي تجدان في التعاون بين الاتحاد الأوروبي ونظيره الأوروآسيوي، وسيلة فاعلة لإعطاء مصداقية لفكرة وجود مساحة اقتصادية مشتركة بين الاتحادين، وذلك من خلال تعاون مجتمع الأعمال الألماني والروسي عبر شركة سيمنز الألمانية وسيفيرستال الروسية، كما حرص الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على تقديم الدعم السياسي للتكامل الاقتصادي بين الكتلتين الآسيوية والأوروبية.
لكن تلك الرؤى لم تترجم إلى حقائق ملموسة ونتائج فعلية على أرض الواقع حتى الآن على الأقل.
ولـ"الاقتصادية" يفسر البروفيسور توماس هاردي أستاذ المنظمات الدولية في جامعة لندن عدم تحقق ذلك بالقول، "علينا أن نفهم أن الاتحاد الاقتصادي الأوروآسيوي ليس نسخة أوروبية آسيوية من الاتحاد الأوروبي، فالتكتلان لا يوجد بينهما تكافؤ، ولا أقصد هنا تكافؤا في القدرات الاقتصادية، إنما على عكس الاتحاد الأوروبي، فإن الاتحاد الاقتصادي الأوروآسيوي لا تحكمه مؤسسات مشتركة قوية قادرة على وضع وفرض مجموعة من القواعد المشتركة، كما أن التجارة الإقليمية داخل الاتحاد الأورآسيوي ضعيفة، ومن ثم فإن فكرة أن تكون هناك منطقة تجارة حرة من برشلونة إلى فلادفوستوك فكرة مبالغ فيها وغير واقعية".
ويضيف، "يعتمد إنشاء سوق مشتركة على مؤسسات قوية تتجاوز حدود المؤسسات الوطنية، مع التزام من قبل الدول الأعضاء بقراراتها، لكننا نجد عدم وجود أحكام ملزمة رسميا في اتفاقيات والتزامات الاتحاد الأورآسيوي، ومن ثم الامتثال إلى القرارات الصادرة غير مكتمل، وهذا يجعل الشراكة مع الاتحاد الأوروبي مستبعدة إذا وجد أحد الأعضاء أنها لا تحقق مصالحه".
إلا أن الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروآسيوي تلقي باللائمة على الاتحاد الأوروبي في إفشال التعاون بين الكتلتين.
وفي هذا الإطار، تستعرض الباحثة الاقتصادية نتاليا هاري وجهة نظر الاتحاد الأوروآسيوي لـ"الاقتصادية"، بالقول "هناك قناعة سائدة لدى عواصم الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروآسيوي، أن الأوروبيين يتعاملون مع التكتل باعتباره أداة جيوسياسية تهيمن عليها روسية لإعادة ترسيخ هيمنتها في فضاء ما بعد الاتحاد السوفياتي، وقد قام الاتحاد الأوروبي بتقييد علاقاته الاقتصادية مع روسيا وفضل التعامل مع الأعضاء الآخرين في الاتحاد الأورآسيوي على أساس ثنائي".
وتضيف "كما أن الاتحاد الأوروبي لم يكن على قلب رجل واحد عند طرح تصوراته بشأن التفاعل مع نظيره الأوروآسيوي، فالجانب البريطاني وخلال أعوام عضوية المملكة المتحدة في الاتحاد الأوروبي وكذلك دول البلطيق وبولندا لم تكن تحبذ التعاون مع تكتل اقتصادي يسيطر عليه الروس".
لكن المشهد بين التكتلين ينم عن تغير بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. فالأوروبيون باتوا أكثر تحررا من الضغوط البريطانية بشأن علاقتهم بالتكتل الأوروآسيوي، وعلى الرغم من استمرار المعارضة البولندية ودول البلطيق فإن الإدراك العام داخل الاتحاد الأوروبي يتزايد بأن الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروآسيوي وتحديدا روسيا تواجه اندفاعا قويا من الصين نحو تكامل أوروآسيوي أوسع يخدم المصالح الاقتصادية والجغرافية وربما الجيوسياسية للصين في القارة الآسيوية وتخوم أوروبا.
يراقب الأوروبيون أيضا وبتوتر شديد التقارب الروسي الصيني وانعكاساته الاقتصادية عليهم، ومن ثم فإنهم يعتقدون أن الوقت قد حان لتعميق تعاونهم مع التكتل الآسيوي، فسيحد ذلك من الاندفاع الصيني، وسيبعث برسالة إلى الدول الأعضاء في الاتحاد الآسيوي بما في ذلك روسيا بأن تحسين العلاقة بين الكتلتين سيخدم مصالح الأوروبيين في آسيا الوسطى مقابل تعزيز المصالح الاقتصادية لشركات الاتحاد الأوروآسيوي في أوروبا.
بدوره، يقول لـ"الاقتصادية" الدكتور لورانس بلاك الخبير في الاقتصاد الدولي، "الوقت بات أكثر ملاءمة للاتحاد الأوروبي للتقارب من التكتل الاقتصادي الأوروآسيوي، فالاتحاد الأوروبي شريك اقتصادي لا غنى عنه، والصين بالطبع هي درة تاج الاقتصاد العالمي حاليا، لكن بالنسبة إلى دول الاتحاد خاصة روسيا فإنها تظهر تململا من فكرة أن تصبح الشريك الأصغر لبكين في معظم سلاسل القيمة العالمية، وأن تكتفي بدور مورد الطاقة والمواد الخام للصين".
ويضيف "فتعزيز الشراكة الروسية وشراكة الأعضاء في الاتحاد الأوروآسيوي يفتح لهم آفاق التعاون التكنولوجي مع أوروبا، لكن لحدوث هذا لا بد أن يوسع الأوروبيون نطاق تعاونهم الاقتصادي ولا يحصرونه في التعاون الثنائي مع دول الكتلة الأوروآسيوية على الرغم من أهمية ذلك، إنما يعززون مجالات التعاون الكلي بين الكتلتين".
بطبيعة الحال ستتوقف فاعلية النهج الجديد المرجح في العلاقة بين الكتلتين على حسابات الربح والخسارة بمعناها الاقتصادي الشامل. فبعض الدراسات الحديثة تشير إلى أن تقارب الكتلتين سيمكن الاتحاد الأوروبي من زيادة صادراته إلى دول الاتحاد الأوروآسيوي بأكثر من 50 في المائة في حال وقعت اتفاقية تجارية شاملة بين الاتحادين، بل سيسهم التقارب في جعل مبادرة الحزام والطريق الصينية أقل اندفاعا وأكثر توازنا.
مع هذا فإن صورة هذا التقارب الاقتصادي بين الكتلتين لا يمكن أن تتم أو تكتمل دون الحصول على مباركة بل وموافقة واشنطن للمضي قدما في تقارب اقتصادي، وإذ يصعب أن توافق الإدارة الأمريكية بمساحة اقتصادية بين لشبونة الأوروبية وفلاديفوستوك الروسية، بما يعنيه رفضها من إمكانية فرض البيت الأبيض إجراءات قاسية على الطرفين. إلا أن الشعور الأمريكي بأن الإفراط في التضييق على روسيا قد يدفعها إلى الاندفاع تجاه الصين يمثل كابوسا للاستراتيجية الأمريكية، بما يجعلها تغمض إحدى عينيها عن تقارب الكتلة الأوروبية مع الاتحاد الاقتصادي الأوروآسيوي، على أن تبقى الأخرى مفتوحة تحسبا لأي تطور لا تحسب عقباه.