موجهات السلوك ومعالجتها

يهتم مختصو العلوم الإنسانية بالسلوك البشري، سواء على مستوى الفرد، أو المجتمع، بمعالجة السلبيات التي تفرز من تصرف الناس السلوكية، حيث إن هذه التصرفات أصبحت تشكل ظاهرة اجتماعية، أو ما يقترب منها، والاهتمام مبعثه معرفة الأسباب المحدثة له، أو المحفزة، والمثبطة له للوصول إلى مرحلة التحكم، والتوجيه قدر الإمكان، بما يتناسب مع الأهداف المرسومة في هذا المجتمع، أو ذاك، حيث الوعي بالأسباب يمثل الخطوة الأولى، والأساس لإحداث التغيير المنشود قبل رسم الخطة، والبرنامج السلوكي الذي يحقق التغيير.
حقيقة بديهية يعرفها المختصون أن السلوك الإنساني ليس من اليسير فهمه، ولا تغييره، ذلك أنه معقد، تتداخل فيه متغيرات كثيرة، منها ما يخص الفرد بيولوجيا، وفسيولوجيا، وثقافيا، واعتقاديا، ومشاعر، وغرائز، وأفكارا متجذرة تحولت مع الوقت إلى جزء من وجدانه، يدافع عنها بشراسة، إذا ما شعر أن أحدا يحاول المساس بها، حتى لو كانت هذه الأفكار لا قيمة لها في واقع الحال، خاصة في تحسين وضعه المعاشي، والحياتي عموما. أما العوامل الأخرى، ذات التأثير في السلوك فهي عوامل خارج ذات الفرد مرتبطة ببيئته المادية، والاجتماعية، وكمثال على البيئة المادية التغيرات المناخية من حر، وبرد، ورياح، وأمطار، ورعد، وبرق، حيث يشتكي البعض من إصابتهم بحالة من الاكتئاب في حال التحولات المناخية السريعة، وقد كشفت الإحصائيات في الدول شديدة البرودة ميل البعض للانتحار بسبب صعوبة الحياة، والشعور بالوحدة لشدة البرد، وغياب الشمس فترات طويلة.
البيئة التي يقطن فيها الفرد لها دور في إكساب ساكنيها خصائص واضحة، فسكان الأرياف تظهر عليهم البساطة، والأريحية، وسعة البال، أما المدن الكبيرة فيلاحظ على ساكنيها التوتر، والاندفاع في المشي، وعند ركوب وسائل النقل العام، وكل فرد منشغل بنفسه، إما يقرأ، أو يفكر في أمر يشغل باله.
النوع الثاني من العوامل الخارجية يتمثل في المكونات الاجتماعية والمقصود بها الثقافة السائدة، والعادات، والتقاليد، والقيم، حيث يجد كثير من أبناء أي مجتمع قوة ارتباطهم بالمكونات الاجتماعية لاعتيادهم عليها، ولأنها أصبحت تمثل ركائز الهوية الاجتماعية التي يستمد منها الفرد السمات، والخصائص التي تميزه عن غيره من أبناء المجتمعات الأخرى، ومن الأمثلة البارزة اللباس الذي يأخذ فيه أي مجتمع من المجتمعات حتى إن الفرد ليضطر في ظروف معينة لارتداء لباس في بيئة العمل، لكنه يغيره سريعا حال خروجه من العمل لما يجده من راحة نفسية مع لباسه التقليدي أو المعتاد.
ومن الممارسات البارزة في أعوام الدراسة خارج الوطن حضور المسلمين من أوطان شتى بلباسهم التقليدي في مناسبات الأعياد، كل يزهو، ويفاخر بلباسه الوطني، وكأنه يقول هذا هو وطني يسير معي أينما كنت، فالسعوديون بثيابهم، وشماغهم، وعقلهم، بل حتى البشوت، والهنود، والباكستانيون والإندونيسيون، وغيرهم كل يزهو بلباس وطنه.
المعرفة المتوافرة لدى الشخص لها دورها القوي في التأثير في السلوك، فالوضع الطبيعي أن السلوك يفترض اتساقه مع المعرفة، ولا يكون مناقضا، إلا أن من المفارقات غير المفهومة التناقض بينهما، فعلى سبيل المثال لا الحصر المعرفة التي تبثها قنوات التوعية بشأن كوفيد - 19 والتوجيهات، والإرشادات بشأنه تصل لكل فرد، لكن نجد من يتعمد مخالفة التعليمات، مع معرفته بخطورة سلوكه المخالف. ومن الأمثلة أيضا إصرار البعض على التدخين، رغم أن البحوث العلمية والوقائع أثبتت ضرره وارتباطه بكثير من الأمراض.
الأنظمة والقوانين التي تسنها الدول لها دورها في توجيه السلوك، ومنعه، أو تنشيطه، فشعور الفرد بتوافق سلوك ما مع الأنظمة يشجعه على القيام به لنيل رضا المجتمع ومؤسساته، أو الحصول على ما يترتب عليه من مكاسب مادية، أو معنوية، أما السلوك المتعارض مع الأنظمة فالمفترض تجنبه، كما في تجاوز السرعة، فسن قوانين تدين، وتغرم المخالفين، ووضع آلية كشف المخالفات، كما في نظام ساهر حد من الممارسة الخاطئة.
هذه أمثلة على تعقد السلوك الإنساني الاجتماعي، وصعوبة تفسير مسبباته فالمعرفة متوافرة، لكن الفرد ربما لم يبلغ مستوى الوعي، والنضج الذي يمكنه من الالتزام بما علم به، أو ربما حالة الاستهتار، أو التفاخر أمام الأصدقاء، والأقران، أو حالة تمرد يعيشها، ولذا موضوعية تفسير السلوك تتطلب عدم استبعاد أي سبب محتمل.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي