القطاع الخاص والاستثمار في البحث والتطوير (R&D)
رافق بداية العقد الحالي حدثان في المملكة العربية السعودية لهما صداهما العالمي و ثقلهما الاقتصادي: الأول قيادة المملكة مجموعة قمة العشرين الاقتصادية لعام 2020، و الثاني إتاحة الفرصة للأفراد والمؤسسات للاستثمار في شركة أرامكو السعودية – إحدى كبرى شركات النفط في العالم - في السوق السعودي، مما يعزز مكانة المملكة ومناخ الاستثمار فيها. كما يعبر عن أهمية اقتصادها إقليميا ودوليا، إضافة إلى الثقل السياسي والوزن التاريخي. ويؤكد الدور الحيوي الذي يضطلع به القطاع الخاص والذي لا يستهان به، خصوصا في ضوء التحولات الإيجابية التي تحدث أو حدثت في السنوات الأخيرة من تنويع مصادر الدخل وانطلاق برامج الرؤية التنفيذية، ومنها إعلان سمو ولي العهد إطلاق برنامج "شريك" كإطار عمل حكومي تعاوني لتمكين الشركات الكبرى لرفع استثماراتها وتعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص.
جمعني لقاء عابر بنائب إحدى الشركات الكبرى في السوق السعودي – من ضمن أكبر 20 شركة حسب تصنيف رأس المال – وتبادلنا الحديث حول البحث والتطوير في الشركة، وكانت المفاجأة لما سألته عن جهود الشركة في البحث والتطوير في القطاع الذي يخدم منتجاتها فأكد لي عدم وجود ميزانية اعتبارية مخصصة للبحث والتطوير ضمن بنود إنفاق الشركة، وأنه يسعى لإقناع إدارة الشركة بأهمية ذلك على المدى الطويل. وهنا يأتي التساؤل لماذا لا تخصص الشركات شبه الحكومية والخاصة جزءً من ميزانيتها وأرباحها السنوية للإنفاق على البحث والتطوير مما ينعكس لاحقا على تطوير منتجاتها وخدماتها وإيجاد حلول مبتكرة لبعض القضايا المحلية التي هي في نطاق عملها وفي سياق القطاع الذي تخدمه؟ ولما يغيب عن هذه الشركات العملاقة أهمية البحث والتطوير والدور الاستراتيجي الذي يمكن أن يحدثه على المدى الطويل؟
وإذا تأملنا في الإنفاق على البحث والتطوير في الشركات المنتمية للسوق السعودي ، لوجدنا أن كبرى الشركات إما يتم معظم انفاقها خارج المملكة لأسباب تقنية، أو بحثا عن قدرات بشرية ماهرة ، أو غيرها ، أو ليس لديها خطة واضحة للإنفاق لخدمة مصالحها ، وتقوم بالإنفاق على سبيل المسؤولية الاجتماعية ولا تنتظر أي عائد اقتصادي من ذلك مع أن الإنفاق على البحث والتطوير ينعكس على مصلحة الشركة تجاريا وماليا على المدى الطويل في توسيع خدماتها، وتقديم حلول مبتكرة لتعقيدات محلية تواجهها، كما يساهم في زيادة الإيرادات وتقليل النفقات، ورفع مكانة الشركة محليا وعالميا، والمحافظة على مكانتها السوقية وقوتها الاستثمارية. ومن أجمل قصص نجاح برنامج التحول الوطني إطلاق برنامج البحث والتطوير لدعم الجامعات، وكان من أولويات مبادرات البرنامج حين انطلاقه مد الجسور ودعم العلاقة بين الجامعات ومراكزها البحثية من جهة وقطاع الصناعة من جهة أخرى للاستفادة من التجهيزات والخبرات وتفعيل القدرات البشرية في قضايا تهم منظومة القطاع الخاص وتوجهاته، وتحفيز الجامعات والباحثين لتوجيه أدوات البحث والنظر في أولويات القطاع الخاص والصناعة.
في مقالة خاصة ب (Harvard Business Review) في عام 2018 م كتبتها آن نوت مؤلفة كتاب : "كيف يعمل الابتكار حقيقة (How Innovation Really Works) " وكان عنوان المقالة: "لا يوجد خيار جيد بديلا عن الاستثمار في البحث والتطوير"، أكدت فيها أن نتائج الأبحاث تشير إلى أن الدول والشركات والمستثمرين سيكونون في حال أفضل إذا خصصت الشركات جزءً من إنفاقها - على المدى الطويل -في جوانب البحث والتطوير، وأن آخر الأبحاث التي نشرتها المؤلفة حديثا تشير إلى أن الشركات الكبرى تنفق أكثر من غيرها على البحث والتطوير، ويكون العائد من ذلك أكبر، وإنفاقها يكون عادة أكثر كفاءة من غيرها، وكانت خاتمة المقالة التأكيد على أن الطريق الوحيد للشركات الكبرى أن تكون مبتكرة هو أن تستثمر في البحث والتطوير ولا تكتفي بشراء الشركات الناشئة كبديل للاستثمار في البحث والتطوير. وتشير إحصاءات الإنفاق على أن 10 شركات من الشركات الكبرى عالميا أنفقت ما يقارب 140 مليار دولار على البحث والتطوير في عام 2018 م.
على سبيل المثال، زادت شركة آبل العملاقة من إنفاقها على البحث والتطوير في العشر سنوات الأخيرة أكثر من 13 ضعفا ونتج عن ذلك منحها براءات اختراع بأكثر من ألفي براءة في سنة واحدة في مجالات جديدة للشركة في اللياقة والصحة العامة والحساسات الحيوية. وكمثال آخر لشركة تقنيات حيوية Biogen وفي إعلان جديد لهيئة الغذاء والدواء الأمريكية خلال الأيام الماضية بالموافقة على الترخيص المبدئي لأول دواء لمرضى الزهايمر طورته تلك الشركة حيث ساهم في إنشائها قبل أكثر من أربعين عاما عالمان فازا بجائزة نوبل على عملهما البحثي في الجامعات في نطاق العلوم الأساسية في مجال الأحماض النووية وتقنيات الجينات الحيوية، واستطاعت الشركة تطوير عملها وتقديم حلول حيوية جديدة لتنافس كبرى شركات الأدوية في مجال علم الأعصاب. ومن جهة أخرى وعلى مستوى القطاعات في الدول، توسعت سنغافورة في الإنفاق على البحث والتطوير في مجالات التقنية الرقمية وصناعة العلاج الخلوي وإنتاج الغذاء المعتمد على الاستدامة، ليكون لشركاتها الوطنية مكانتها العالمية، والقدرة على المنافسة عالميا في مجالات واعدة.
ولا شك أن المملكة مؤخرا تعيش نقلة نوعية من خلال تلك البرامج التحولية التحفيزية، الأمر الذي يحتم على شركات القطاع الخاص إعادة النظر في الاستثمار في البحث والتطوير وذلك من خلال استغلال البيئة الحالية وتوفر القدرات البشرية وانطلاق برامج تحفيزية واعدة لتحقيق المنافسة الإقليمية والعالمية، ومن خلال التناغم وتوثيق العلاقة مع الجامعات ومراكز البحث ومعامل العلوم الأساسية والتقنيات الحديثة التطبيقية لتقديم حلول مبتكرة ذات أثر اقتصادي واجتماعي على المدى البعيد.