عولمة الخوف .. أعدل الأشياء قسمة بين الناس اليوم
ينسب إلى الفيلسوف الفرنسي ألبير كامو قوله "إذا كان القرن الـ17 هو قرن الرياضيات، والقرن الـ18 هو قرن الفيزياء، والقرن الـ19 هو قرن البيولوجيا، فإن القرن الـ20 هو قرن الخوف". مضى على هذا القول أكثر من 60 عاما، ما يدفع إلى التساؤل، يا ترى لو كان الفيلسوف حاضرا بيننا ماذا سيقول عن خوف هذا الزمن، أي موقف سيتخذ من ظاهرة صناعة وتسويق وعولمة الخوف المتزايدة؟
تعدى الخوف في الحقبة المعاصرة التعريفات المتداولة في المعاجم، على غرار ما نجده في القاموس الفرنسي، بكونه "حالة نفسية خاصة تلازم الشعور بخطر سواء أكان مبررا أم لا، ويتضمن تهديدا للحياة مثلا، وقد يؤدي ذلك الإحساس بالخطر إلى حالة عاطفية ذات طابع مأزوم، يصعب السيطرة عليها، يصاحب ذلك شعور مؤلم بعدم الأمان"، أو في معجم أكسفورد "إنه الشعور السيئ الذي يمتلك الفرد عندما يكون في خطر، أو إحساس بأن أمرا جللا قد يحصل في لحظة ما"، ليصبح حالة عالمية عامة تعم العالم بأسره، فحتى الخوف تعرض للعولمة، في مفارقة عجيبة قلما أثارت الانتباه.
حظيت "صناعة الخوف" في العقود الأخيرة باستثمارات ضخمة، أفضت إلى تشكيل جو عام من عدم اليقين محليا وعالميا، تعزز بهيمنة "ثقافة الخوف" على المجتمعات في ظل التعدد اللا نهائي للتهديدات التي باتت أقرب إلى مساحات الأمن الشخصي للأفراد، وبقائهم المادي أكثر من أي وقت مضي. ومع صعود مجتمع المخاطر ومناخ الخوف العام، تماهت الحدود الفاصلة بين المخاوف الحقيقية والمتخيلة مع تداخل مصادر التهديد، وتعدد مسببات الخوف.
صحيح أن الخوف ومن مرادفاته - مع الاختلاف في الدرجة - الفزع والهلع والرعب والرهبة والذعر والروع والوجل، فطرة وغريزة ملازمة للإنسان منذ بدء الخليقة، فهو نتاج تفاعل مشاعر وعواطف إنسانية مختلفة. أصالة الخوف في الطبيعة البشرية أوحت إلى فيلسوف فرنسي فكرة اعتمادها معيارا لتحديدها، فقال "إن من لا يخاف ليس سويا".
لكن التمييز واجب بين خوف طبيعي من شر الحاضر أو نذر المستقبل، فعادة ما يكون الخوف مما هو محتمل أو وارد أو متوقع أو مجهول، في عالم يكاد يكون فيه المستقبل جزءا من حاضرنا القلق، وخوف عالمي فرضته العولمة التي غطت زوابعها الأركان الأربعة للعالم، ولنا أوضح دليل فيما فعله وباء كورونا، فلا وباء الكوليرا أو الطاعون أو الإنفلونزا الإسبانية، ولا حتى الحروب العالمية، استطاع عزل القارات، وقطع السفر والتواصل بين الدول. فيما نجح في ذلك وبسرعة لافتة، مقدما نموذجا واضحا عن عولمة الخوف.
لقد تمكن هذا الفيروس غير المرئي، خلال شهرين فقط، من تحويل "القرية العالمية" كما تصفها سردية العولمة إلى "قرية مذعورة". فالخوف هو أعدل الأشياء قسمة بين الناس اليوم، لأن الطبيعة الناقلة للفيروس لا تتوقف أمام حدود أراض تحميها الجيوش، ولا أمام أجسام محصنة بالطب أو التكنولوجيا، ولا تميز بين متقدم ولا متخلف ولا عالم ثالثي.
ضرب العالم مجددا موعدا مع الخوف، بعدما وعد بأن إشاعة فلسفة وقيم الحداثة، أي إقامة الدولة الوطنية بسيادتها وأولوية مصالحها، يضمن الأمن والأمان والسلم والسلام. لا شيء من ذلك تحقق عمليا، فعلى النقيض يظهر أن الحداثة فشلت في القضاء على الخوف، ونجحت في إعادة تدويره وبيعه لمستهلكين خائفين، حتى بات خوفا سائلا، بتعبير عالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان، ينيط مسؤولية الأمن بالأفراد، ثم يبيع هؤلاء وسائل الحماية الذاتية.
أليست فكرة العزل الضاربة في عمق التاريخ، المقترحة حلا لمواجهة جائحة كورونا، مثالا صارخا على هذا الفشل في تحقيق الأمن والقضاء على الخوف. صحيح أن الأفراد، لا البشرية، باتوا أكثر حماية مما كانوا عليه في السابق، لكنهم باتوا أقل أمنا، ويتملكهم الشعور الدائم بالخوف والرعب.
ما أكثر الأمثلة المجسدة لظاهرة عولمة الخوف في الحياة المعاصرة، فإلى اليوم لا تزال أعتى أجهزة الاستخبارات العالمية، وأحدث صيحات التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي عاجزة عن القضاء على الإرهاب. حتى وقت قريب، كانت سردية مواجهة التطرف في قائمة أولويات جل دول العالم، ما يعني سيادة الخوف وانحصار الأمن، خاصة، بعد نجاح ظاهرة "الذئاب المنفردة" التي طورتها الأدبيات القتالية لجماعة داعش وأخواتها، في استهداف مواقع وأمكنة داخل أقوى الدول "ألمانيا، فرنسا، كندا.."، ولا سيما تلك المطمئنة إلى قواعدها.
أليست موجات الرعب المتزايدة جراء التغيرات المستمرة التي تصيب كوكب الأرض، نتيجة فقدان التوازن البيئي بسبب المشكلة المناخية، وسرعة التهاوي والانهيار من حولنا، مؤشرات على أن علماء النفس على حق، في اشتغالهم على دراسة الآثار النفسية لتغير المناخ، أي السولاستالجيا التي تعني الخوف الناجم عن المسألة البيئية. كما أن اتساع نطاق وتداعيات المشكلة المناخية عاما بعد آخر مثال إضافي يكشف مستوى عولمة الخوف في العالم.
تعد الأزمة المناخية أنصع الصور بشأن عولمة الخوف، فلا الأفراد ولا الدول ولا حتى جهود المؤسسات والهيئات الدولية قادرة، بخطة وإيقاع الاشتغال الحالي، على مواجهة الظاهرة والتصدي لها، بما يضمن محاصرة الخوف الناجم عن المسألة البيئية لدى فئة عريضة من سكان هذا الكوكب، خاصة من يعيشون في المناطق المهددة بدرجة كبيرة.
هي مجرد أمثلة منتقاة عن ظاهرة يتسع مداها يوما بعد آخر، ولا إشارة إلى القطع معها في الأفق المنظور. لكونها سند الحداثة المتين في تغطية عوراتها، وتورية خلالها المتفاقمة.