عقيدة بايدن .. البحث عن مكان جديد لأمريكا في العالم
بعد أكثر من 24 ساعة بقليل من خروج آخر القوات الأمريكية من كابول، منهية انسحاب أمريكا الشاق والمميت من أفغانستان، أعلن جو بايدن بداية فصل جديد في السياسة الخارجية الأمريكية.
قال الرئيس الأمريكي البالغ من العمر 78 عاما في تصريحات متلفزة من غرفة الطعام في البيت الأبيض الثلاثاء "إن هذا القرار بشأن أفغانستان لا يتعلق فقط بأفغانستان. الأمر يتعلق بإنهاء حقبة من العمليات العسكرية الكبرى التي تسعى إلى إعادة بناء الدول الأخرى".
لم تكن تعليقات بايدن جديدة على نحو خاص، تعود شكوكه بشأن الحرب الأمريكية في أفغانستان إلى عهد إدارة أوباما. وتجلت رغبته في إنهائها من خلال وعد أطلقه أثناء الحملة الانتخابية عام 2020، ومن خلال كونها شكلت أولوية منذ دخوله البيت الأبيض في كانون الثاني (يناير).
لكن الطبيعة الفوضوية للانسحاب وتأكيد بايدن على اتساع نطاق أهميته جعلا صداه يتردد عبر واشنطن والعالم، كونه جسد تحول أمريكا في الأعوام القليلة الماضية نحو ممارسة أكثر تحفظا وحذرا لقوتها العسكرية.
بالنسبة إلى مؤيدي نهج بايدن، هذه الخطوة تعكس ما يرون أنه إعادة تقويم متأخرة لسياسة الأمن القومي الأمريكية، بعد صراعات مكلفة وغير مثمرة تكشفت على مدى العقدين الماضيين. ويعتقدون أن هذا التحول سيعطي المسؤولين الأمريكيين والجيش مساحة أكبر للتركيز على مواجهة المنافسين الاستراتيجيين الكبار مثل الصين وروسيا، ومواجهة التحديات العالمية مثل أزمة المناخ، دون الوقوع في مستنقع الصراعات المفتوحة، ولا سيما في الشرق الأوسط.
ويشعر بعض آخر بالقلق من أن بايدن يدخل في حقبة انكفاء أمريكا على الذات، الأكثر خطورة، الأمر الذي قد يشجع خصومها ويثير حفيظة حلفائها الأكثر ضعفا، ويقوض مساعيها من أجل حقوق الإنسان، ويبدد بعض الآمال في العودة إلى قيادة عالمية أمريكية قوية بعد أربعة أعوام من حكم دونالد ترمب.
يقول أحد الدبلوماسيين الأوروبيين، "يجب إيجاد طريقة لإظهار القوة الأمريكية في المستقبل المنظور - وإلا فإن الصينيين والروس سيعتقدون تلقائيا أن هذا هو القرن الذي تصعد فيه الصين إلى الصدارة وتنجح الأنظمة الشمولية. سيكون ذلك خطيرا للغاية".
يتساءل ويليام كوهين، وزير الدفاع الأمريكي في عهد بيل كلينتون، قائلا، "ما يشغلني الآن هو كيف يرانا بقية العالم؟". ويسأل أيضا، "ما الحسابات فيما يخص (الصين وروسيا)؟ وعلى القدر نفسه من الأهمية، ما الحسابات المتعلقة بحلفائنا؟".
الأولويات في مكان آخر
كان بندول السياسة الخارجية والدفاعية للولايات المتحدة يميل إلى تجربة المرور بالتحولات الجيلية بين الحزم والتراجع خلال القرن الماضي. تسببت الحرب في فيتنام في ردة الفعل العنيفة الأخيرة ضد الانتشار العسكري الكبير وكذلك الاحتجاجات الحاشدة المناهضة للحرب في جميع أنحاء البلاد. وفي عام 1969 دعا الرئيس آنذاك، ريتشارد نيكسون، الولايات المتحدة إلى "عدم تحمل كامل عبء الدفاع عن الدول الحرة في العالم".
لكن بعد أكثر من عقد بقليل، وبعد دخول رونالد ريغان المكتب البيضاوي، تلاشى تردد أمريكا في استخدام القوة العسكرية بطريقة كبيرة، استخدم الرئيسان جورج بوش الأب وبيل كلينتون التدخلات العسكرية واسعة النطاق في العراق خلال حرب الخليج الأولى والصراع في كوسوفو للدفاع عن القانون الدولي ومعاقبة منتهكي حقوق الإنسان.
كان الغزو الأمريكي الذي شنه جورج دبليو بوش على أفغانستان والعراق بعد هجمات 11/ 9 الإرهابية أكثر جرأة وتعقيدا ودموية، ما أدى إلى فقدان بطيء ومستمر للتأييد بين جمهور الأمريكيين في الداخل، وازدياد التوتر في التحالفات الأمريكية العالمية.
قال بايدن الثلاثاء، "لقد رأينا مهمة لمكافحة الإرهاب في أفغانستان - وهي حمل الإرهابيين على إيقاف الهجمات - تتحول إلى مكافحة التمرد، وبناء دولة، ومحاولة إيجاد أفغانستان ديمقراطية ومتماسكة وموحدة". أضاف، "الانتقال من تلك العقلية وهذا النوع من نشر القوات على نطاق واسع سيجعلنا أقوى وأكثر فاعلية وأكثر أمانا في الوطن".
بحسب خبراء السياسة الخارجية في واشنطن، تصريحات بايدن لا تزال تمنحه كثيرا من المرونة لاستخدام القوة إذا لزم الأمر. يقول توم دونيلون، مستشار الأمن القومي الأمريكي في عهد باراك أوباما، "أنا لا أرى أن القرار في أفغانستان هو أن الولايات المتحدة ستتردد في استخدام القوة إذا كان ذلك في مصلحتها. لقد كان قرار بايدن هو أنه لم يعد من مصلحة الولايات المتحدة مواصلة الجهود التي استمرت لعقود في أفغانستان التي كانت تكلف الأرواح والأموال. وإن أولوياتنا تكمن في مكان آخر".
جيم دوبينز، الزميل الكبير في مؤسسة راند الفكرية ومسؤول كبير سابق في وزارة الخارجية الأمريكية، يحذر من أن نيات الرؤساء الأمريكيين المتمثلة في الابتعاد عن العمليات العسكرية الخارجية المهمة في الأغلب ما تكون قصيرة الأجل وتتجاوزها الأحداث.
يقول دوبينز، "إنه أمر غير تاريخي، وأعتقد من غير المحتمل أيضا المضي قدما في الاعتقاد بأننا سنقتصر على مثل هذا التعريف الضيق للمصالح الحيوية الأمريكية، أو مثل هذا النطاق الضيق للتدخلات الأمريكية".
التهديد الآتي من الصين
يقول جيك سوليفان، مستشار الأمن القومي لبايدن، إن "جوهر الرؤية" السياسية الخارجية للرئيس يظل كما هو منذ أيامه في مجلس الشيوخ.
ثم يشير إلى مكونات رؤية بايدن الرئيسة، "أمريكا قوية تعمل مع الشركاء والحلفاء للدفاع عن قيمنا المشتركة، وتعزيز مصالحنا المشتركة، وإثبات - حتى في مواجهة التحديات العالمية الجديدة والمتسارعة - أن الديمقراطية يمكن أن تتحقق للشعب الأمريكي وللناس في جميع أنحاء العالم".
بحسب مسؤولين ودبلوماسيين أمريكيين سابقين، لو كان انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان أكثر سلاسة، لكان الأمر مطمئنا وأكثر انسجاما مع كلمات سوليفان. لكن الطريقة التي تكشفت بها الأحداث، مع صدمة حلفاء الولايات المتحدة من سرعة استيلاء طالبان على السلطة والمطالبة عبثا بمزيد من الوقت لإجلاء مواطنيهم، كل هذا قوض الثقة في الولايات المتحدة.
يقول دبلوماسي أوروبي، "كنا نعلم أن ذلك سيحدث، علمنا أنه سيحدث في وقت وشيك، وأعددنا لفكرة الرحيل معا، لكننا لم نتوقع هذا التسارع المصطنع إلى حد ما. ما فاجأنا هو الطريقة التي حدث بها الأمر بينما كنا نتوقع مزيدا من التعاون".
لقد كان المسؤولون الأمريكيون - بمن فيهم وزير الخارجية أنتوني بلينكين، ووزير الدفاع لويد أوستن، ونائبة الرئيس كامالا هاريس - يسارعون في الأيام الأخيرة إلى شكر الحلفاء في جميع أنحاء العالم، على مساعدتهم على الإخلاء، لإعادة تأكيد التزام أمريكا بأمنهم، ولتنسيق الجهود للتعامل مع حكومة طالبان الجديدة.
تقول مارا رودمان، نائبة الرئيس للسياسة في مركز التقدم الأمريكي، "سيكون الحفاظ على صدقية الولايات المتحدة وبناؤها مع الحلفاء والمنافسين في آن معا تحديا رئيسا أمام هذه الإدارة، انطلاقا من الانسحاب من أفغانستان".
لكن ليس من الواضح على الإطلاق أن كل ذلك التوتر والاحتكاك سيتم تصحيحه سريعا.
يقول الدبلوماسي الأوروبي، "بالنسبة إلى الحلفاء الغربيين، يثير ذلك نقاشا جادا في الناتو وغيره حول ما يعنيه القيام بعمليات كبيرة في المستقبل". يضيف، "وإلا فإننا نخاطر بأن الرواية الروسية عن ’نهاية الغرب‘ستكتسب صدقية خارج التحالف عبر الأطلسي". قد تظهر مخاوف أكبر بكثير في تايوان أو أوكرانيا أو دول أخرى تعتمد بشكل كبير على ضمانات أمريكية لأمنها.
لا يزال لدى الولايات المتحدة 200 ألف جندي منتشرين خارج أراضيها، في أماكن مثل ألمانيا وكوريا الجنوبية وغيرها من الدول، وميزانية دفاع سنوية حجمها 700 مليار دولار - وهي قوة عسكرية هائلة لا يستهان بها.
ويقول مايكل ماكينلي، السفير الأمريكي السابق في أفغانستان والدبلوماسي السابق المخضرم، إن أمريكا "لا تتراجع" بشكل عام - ولا ينبغي أن يكون للرحيل من أفغانستان "تداعيات بالنسبة إلى بقية العالم". الفشل في أفغانستان زاد من أهمية نجاح إدارة بايدن في بقية سياستها الخارجية وأهدافها الداخلية، على حد قوله.
يضيف ماكينلي، "السؤال الحقيقي هو، هل ستستمر وتنجح هذه الأجندة الأوسع؟ هل أمريكا، تعيد دمج نفسها بنجاح في القضايا الانتقالية مثل تغير المناخ، والتكنولوجيا، والاستجابة للجائحة، وتطوير استراتيجية متماسكة للتعامل مع الصين وروسيا؟".
لا يرى الدبلوماسي الأوروبي أن الولايات المتحدة "دولة ستتخلى عن أشياء معينة"، مثل مكافحة الإرهاب، أو السعي وراء حقوق الإنسان، لكنه يقول، "أرى دولة تركز بشدة على نفسها".
في الداخل ركز بايدن بشدة على خططه لبرنامج بنية تحتية بقيمة 1.2 تريليون دولار، وحزمة إنفاق اجتماعي بقيمة 3.5 تريليون دولار، وزيادات ضريبية شاملة على الشركات والأثرياء، ينظر إليها على أنها جوهرية لجهود أمريكا لتحدي منافسيها الدوليين على الصعيد الاقتصادي. مع ذلك، التصورات الخاصة بقوة أمريكا وضعفها حول العالم قد تمليها بشكل أكبر حالة الديمقراطية الأمريكية، نظرا للتأثير المستمر للرئيس السابق دونالد ترمب وتحديه للمؤسسات التقليدية والانتخابات المفتوحة.
تقول ناتالي توتشي، مديرة معهد العلاقات الدولية، وهو مؤسسة فكرية للسياسة الخارجية في روما، وأستاذة زائرة في كلية كينيدي في جامعة هارفارد، إن استراتيجية بايدن "منطقية بالنسبة لقوة عظمى في حالة تدهور نسبي".
لكن مع تحرك الولايات المتحدة بحذر أكبر في استعراض قوتها العسكرية، قد تواجه واشنطن معضلات مشابهة لتلك التي تواجهها الدول الأوروبية. تقول توتشي، "نحن (في أوروبا) لا نعرف ماذا نفعل تجاه تركيا، ولا نعرف ماذا نفعل بشأن بيلاروسيا. الأمر لا يتعلق فقط بأفغانستان. لفترة طويلة لم نعرف ما يجب فعله حيال بعض هذه الأماكن. ليس لدينا الجواب أيضا، لكننا نحتاج إلى العثور عليه".