الاتحاد الأوروبي .. مخاوف من عودة الأيام المظلمة لأزمة الدين
سرعت الحكومات الأوروبية إنفاقها لمنع جائحة كوفيد - 19 من التسبب في كارثة اقتصادية، رغم تصاعد دينها العام. ويواجه الاتحاد الأوروبي الآن دعوات إلى تخفيف قواعد ضبط الموازنة بما يسمح بمواصلة الإنفاق السخي، لكن المسألة تنطوي على حساسية بالنسبة إلى عديد من الدول الأعضاء.
وتبذل المفوضية الأوروبية، الهيئة التنفيذية للاتحاد، التي تشرف على موازنات الدول الأعضاء الـ27، كل ما في وسعها لمنع قيام أزمة سياسية يمكن أن تطول تداعياتها الحملة الانتخابية هذا الشهر في ألمانيا.
ويلتقي وزراء المال في الاتحاد منذ أمس حتى اليوم، لمناقشة المسألة خلال محادثات في قصر بردو التاريخي في سلوفينيا.
ووفقا لـ"الفرنسية"، قال برونو لومير وزير المال الفرنسي لدى وصوله للمشاركة في الاجتماعات "سيتعين علينا الاتفاق على قواعد مختلفة، عودة مختلفة لضبط الموازنة".
وتتمحور المسألة حول الميثاق الأوروبي للاستقرار والنمو، وهو مجموعة من القواعد المتعلقة بإنفاق الموازنة، تفرض على الدول الأعضاء، أقله على الورق، والتقيد بدين عام نسبته 60 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، وإبقاء العجز السنوي دون 3 في المائة".
لكن عديدا من الدول تخطى تلك العتبة، وبعضها طلب من المفوضية اقتراح سبل لجعل القواعد أقرب إلى الحقيقة، حتى قبل الجائحة.
وفي الدول المتعاملة باليورو البالغ عددها 19، يتوقع أن يبلغ معدل الدين 102 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي بنهاية العام.
وأكثر ما يدعو إلى القلق ترسخ فرنسا وبلجيكا في نادي الدول المثقلة بالديون مع توقع ارتفاعها في الدولتين إلى 120 في المائة، من الناتج المحلي الإجمالي.
وتقترب تلك النسبة من المعدلات الكبيرة المسجلة في اليونان "200 في المائة" وإيطاليا "160 في المائة".
لكن تطبيقا صارما لميثاق الموازنة من شأنه أن يؤدي إلى انخفاض كبير للاستثمارات العامة في تلك الدول، مع خطر إغراق أوروبا بأكملها مجددا في انكماش اقتصادي، وعودة للأيام المظلمة لأزمة الدين في منطقة اليورو.
والتخلص الكلي من قاعدة الـ60 في المائة مستحيل، لكن ما سيبدأ الوزراء مناقشته هو إمكانية تخفيف الإجراءات الصارمة للحكومات لخفض الإنفاق وتقليص تراكم الديون.
وقد يتسبب ذلك في أزمة سياسية، ففي معظم الدول تخصص أكبر مبالغ الإنفاق على البرامج الاجتماعية، ولمعاشات التقاعد الحصة الأكبر فيها، وخفض الدين يعني خفض معاشات تقاعد الناخبين.
لكن الدول الغنية، وعلى رأسها ألمانيا، تعتقد أن الوقت حان لشركائها لخفض برامج الرعاية الاجتماعية التي تعود إلى فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
وعلقت تلك النقاشات خلال الوباء عندما تم تجميد قواعد الموازنات حتى تتمكن الدول من الإنفاق بطريقة تجنبها كارثة وشيكة، لكن الاتحاد يعود الآن إلى مسار النمو، ما أحيا النقاش مجددا.
وكحل وسط محتمل، تتجه بعض تلك الدول نحو استبعاد الاستثمارات في التحول الأخضر لأوروبا من الحسابات، أو السعي إلى اقتطاع الإنفاق المرتبط بالجائحة من الديون الأخرى.
ويحظى هذا النهج الأكثر تساهلا ومراعاة للنمو بتأييد باولو جنتيلوني مفوض الشؤون الاقتصادية في الاتحاد بدعم من البنك المركزي الأوروبي وفرنسا ودول الجنوب الأكثر مديونية.
وقال جنتيلوني "يجب أن نعد ذلك بمنزلة استجابة جديدة لما يحدث الآن، والذي يحدث الآن هو أن الوباء أصبح خلفنا، والتحول المناخي أصبح أمامنا".
ويضم المعسكر المقابل ما يطلق عليه دول "التقشف" مثل هولندا والنمسا، التي تريد عودة سريعة إلى قواعد ضبط الموازنة.
وكتبت تلك الدول التي تشمل أيضا فنلندا وسلوفاكيا، عارضة موقفها، أن "المالية العامة السليمة هي ركيزة لعضوية الاتحاد الأوروبي وأساس للاتحاد الاقتصادي والنقدي".
ويأمل البعض تخفيف حدة الصراع. فمقارنة بأزمة الدين في منطقة اليورو التي كادت أن تنسف العملة الموحدة، أظهر الاتحاد الأوروبي تضامنا أكبر خلال الجائحة، وتم تمويل خطته للتعافي البالغة 750 مليار يورو من ديون مشتركة.
إلى ذلك، قال مسؤول كبير في الاتحاد الأوروبي وعدد من وزراء الدول الأعضاء "إن الاتحاد سيعيد النظر في قواعده الصارمة المنظمة لميزانيات الدول الأعضاء، التي بدأت تتعافى من التداعيات الاقتصادية لجائحة فيروس كورونا المستجد".
وقال فالديس دومبروفسكيس نائب رئيس المفوضية الأوروبية خلال محادثاته مع وزراء مالية دول منطقة اليورو في سلوفينيا "بعض أوجه القصور "في النظام" التي تم تحديدها بالفعل قبل الأزمة الراهنة، أصبحت أشد وضوحا".
وأضاف أن "المفوضية الأوروبية، وهي الذراع التنفيذية للاتحاد، ستبدأ خلال الشهور المقبلة مشاورات عامة حول القواعد المجمدة حاليا".
وقال دومبروفسكيس "بوضوح، نحتاج إلى مسارات واقعية لكل الدول الأعضاء لكي نخفض مستويات الدين العام". وكان الدين العام لعديد من دول الاتحاد الأوروبي قد ارتفع بشدة خلال العام الماضي بسبب تداعيات كورونا.
وكانت المفوضية الأوروبية قررت في آذار (مارس) الماضي تعليق العمل بقواعد ميثاق الاستقرار والنمو المنظمة لميزانيات الدول الأعضاء، وذلك لأول مرة في تاريخ الاتحاد الأوروبي، حيث عانت الدول الأعضاء التداعيات الاقتصادية لإجراءات الإغلاق الصارمة التي تم فرضها للسيطرة على انتشار الفيروس ومن المقرر إعادة فرض القواعد خلال 2023.
من ناحيتها، قالت ناديا كالفينو وزيرة الشؤون الاقتصادية الإسبانية "إنه على الاتحاد السعي لوضع قواعد جديدة قبل نهاية "الموقف الاستثنائي" المرتبط بالجائحة".
وأفادت فينسنت فان بيتجيم وزيرة المالية البلجيكية بأن تحقيق التوازن الصحيح بين الديون والاستثمار بعد الجائحة سيكون موضع نقاش مهم خلال الشهور المقبلة.
يذكر أنه وفقا لقواعد ميثاق الاستقرار والنمو، لا يسمح لأي دولة عضو في الاتحاد الأوروبي بزيادة عجز ميزانيتها على 3 في المائة، من إجمالي الناتج المحلي، ودينها العام على 60 في المائة، من إجمالي الناتج المحلي.
وقالت مارجريت فيستاجر مفوضة شؤون المنافسة في الاتحاد الأوروبي "إنه على حكومات الاتحاد الأوروبي ربط الدعم الذي تقدمه إلى الشركات بتخفيض الانبعاثات الغازية المسببة لظاهرة الاحتباس الحراري".
ودعت فيستاجر إلى ضرورة ربط المساعدات الحكومية الرامية إلى تقليل الانبعاثات الكربونية الصادرة عن الصناعات المختلفة بقواعد تنافسية، تجعل الحكومة "أكثر شفافية بشأن قيمة الدعم الذي يتم تقديمه مقابل خفض طن من ثاني أكسيد الكربون"، على سبيل المثال.
وأشارت وكالة "بلومبيرج" للأنباء إلى أن تصريحات فيستاجر جاءت في إطار كلمة ألقاها أحد المسؤولين نيابة عنها أمام مؤتمر قانوني في إيطاليا.
وقالت المفوضة الأوروبية "بهذه الطريقة نستطيع تركيز مواردنا المحدودة على المشاريع التي تحقق أكبر تأثير وأكبر فائدة لمواجهة ظاهرة التغير المناخي، وبأقل تكلفة".
يذكر أن الاتحاد الأوروبي يتبنى خطة طموحة لتقليل الانبعاثات الكربونية، في الوقت الذي يجمع فيه مليارات اليوروهات لدعم الاقتصاد المتضرر من جائحة فيروس كورونا المستجد.
وأوضجت فيستاجر أنها تبحث عن الطرق الأفضل لتوجيه الأموال إلى المشاريع الأكثر صداقة للبيئة، في ضوء ارتفاع درجات الحرارة إلى مستويات قياسية خلال الصيف الحالي، وحرائق الغابات التي شهدتها كندا والولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية.
ورفع البنك المركزي الأوروبي أمس الأول، توقعاته لنمو إجمالي الناتج المحلي في منطقة اليورو إلى 5 في المائة لـ2021، على خلفية تسجيل انتعاش اقتصادي بعد عواقب جائحة كوفيد - 19، على ما أعلنت كريستين لاجارد رئيسة المصرف.
في المقابل، خفض خبراء البنك المركزي الأوروبي بشكل طفيف توقعات النمو لـ2022 من 4.7 في المائة إلى 4.6 في المائة، وأبقوا توقعاتهم لـ2023 على حالها عند 2.1 في المائة.
وتوقع المصرف أن تبلغ نسبة التضخم 2.2 في المائة في 2021 في مقابل 1.9 في المائة في توقعاته السابقة.
وستتجاوز نسبة التضخم بذلك المعدل الوسطي المحدد من قبل المؤسسة النقدية الأوروبية البالغ 2 في المائة.
ووفقا لـ"الفرنسية"، أكدت كريستين لاجارد رئيسة البنك المركزي الأوروبي أن هذا الارتفاع في الأسعار سيكون مؤقتا، وسيتباطأ التضخم بعد ذلك متراجعا إلى 1.7 في المائة في 2022 و1.5 في المائة في 2023.
وإزاء هذا الوضع، قرر البنك المركزي الأوروبي أن يخفف بشكل طفيف إجراءات الدعم الاستثنائية التي يوفرها للاقتصاد، واعتمدت هذه التدابير منذ بدء الأزمة الصحية.
وقالت لاجارد خلال مؤتمر أمس، "يستند الانتعاش إلى نجاح حملة التلقيح الأوروبية التي سمحت بإعادة فتح الاقتصاد بشكل كبير". وتوقعت أن يتجاوز النشاط الاقتصادي مستوى ما قبل الجائحة بحلول نهاية العام، عادة "مرحلة الانتعاش الاقتصادي باتت متقدمة جدا".