أغوار البحر الأحمر الملحية ثروة اقتصادية
تعد البحار من النعم الكبيرة التي امتن الله سبحانه وتعالى بها على الناس وسخرها لهم، وورد ذكر البحر في القرآن العظيم في 42 موضعا بشواهد مختلفة تدل على عظمة البحار ولفت الأنظار لها، وأن الله سخرها للناس على مرور الأزمان لغذائهم واقتصادهم ومواصلاتهم وما يصلح شؤونهم قال تعالى: "وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون" (النحل: 14).
والدول التي تطل على بحار خاصة البحار المفتوحة المتصلة بالمحيطات تعد موردا مهما للمصادر الطبيعية الحية وغير الحية ونقطة تواصل مع العالم وعامل جذب اقتصادي وسياحي وجمالي، ويسهم وجود البحر في خفض تكاليف المنتجات والخدمات، ولا سيما النقل البحري قال تعالى: "ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر لتبتغوا من فضله إنه كان بكم رحيما" (الإسراء: 66). وقال تعالى: "والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس" (البقرة: 164).
ووجود البحر ينعكس أثره الاقتصادي على منتجات وخدمات تلك الدول بتدني تكلفة الإنتاج والشحن وتنعم المملكة - ولله الحمد - بوجود بحرين مهمين هما البحر الأحمر والخليج العربي، وكلاهما يتصل ببحر العرب والمحيط الهندي إضافة إلى اتصال البحر الأحمر بالبحر الأبيض المتوسط أيضا وربط قارة آسيا بقارة أوروبا وإفريقيا من خلاله، وكذلك تعد البحار والمحيطات من المناطق التي تحتوي على أسرار كثيرة لم تكتشف بعد ويقدر كثيرا من علماء البحار أن 90 في المائة من هذه البحار والمحيطات لا تزال مجهولة في كثير من علومها وخصائصها ومصادرها وما تكتنزه من منتجات ومصادر طبيعية حية وغير حية وتغطي هذه البحار والمحيطات ثلاثة أرباع الكرة الأرضية، البحر الأحمر هو الآخر أحد هذه البحار الغامضة ولا يزال يخفي عديدا من الأسرار، ومجالات البحث العلمي واستكشاف موارده مجالا قائما حاليا وسيبقى للأجيال المقبلة لإماطة اللثام عنها.
رصد بعض سفن الأبحاث العابرة عبر البحر الأحمر في منتصف الستينيات ما عرف بالأغوار الملحية الساخنة والباردة في أعماق البحر الأحمر، خاصة أواسط البحر الأحمر وإلى الغرب والشمال الغربي من مدينة جدة وضمن المنطقة الاقتصادية الخاصة بالسعودية، وتوصف هذه الأغوار المحاطة بآثار براكين خامدة مكونة لها بأنها غنية بالعناصر المعدنية والفلزات واللدائن، خاصة الحديد والمنجنيز والنحاس والزنك والذهب وربما اليورانيوم كذلك، ويصل تركيز هذه المواد في رسوبياتها والطمي المتمعدن، وحسب التقديرات الأولية لما يزيد على ألف ضعف من التركيز الموجود لهذه المواد في مياه البحر الأحمر ومن هذه السفن التي قامت بهذا الرصد والعينات وورد في تقاريرها سفينتا ديسكفري البريطانية وأطلانطس الأمريكية عام 1965 وشجع الأخيرة للقيام برحلة أخرى سريعة للتأكد عام 1966 عن طريق سفينة الأبحاث تشين، حيث رصدت ثلاثة أغوار ملحية وحددت أبعادها وإحداثياتها سميت "بغور أطلانطس" وأطلق عليه الباحثون "كنز البحر الأحمر" وجور "سواكن" وجور "بورسودان" وأكد جميع هذه المسوحات رصد طبقة سميكة واعدة اقتصاديا من رواسب تحتوي على مصادر فلزية مثل الذهب والفضة والنحاس والحديد والرصاص والكروم والزنك.
وقامت جامعة الملك عبدالعزيز أيضا ببعض المسوح والدراسات على غور أطلانطس عام 2011 وكذلك فعلت جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية "كاوست" بثول عامي 2012 و2013 وتم جمع عينات عن بعد لبعض هذه الأغوار، وفي الرابع من آذار (مارس) 2020 قام الباحث المهندس محمد الجحدلي من مختبر الموارد الساحلية في جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية والخبير البحري فيكتور فيسكافو من شركة كندا أوشينوجرافيك للأبحاث والمسوح البحرية بعمل مشترك ومسح دقيق وسبق عالمي بغوص حقيقي إلى أعمق منطقة في البحر الأحمر بغور سواكن شمال غرب جدة وعلى عمق 2777 مترا بغواصة متقدمة علميا تسمى ترايتون، ما جعل هؤلاء الشخصين "محمد وفيكتور" أول جسدين بشريين في العالم يصلان إلى هذا العمق في البحر، وقد استغرقت رحلة الغطس تلك خمس ساعات تحت الماء ورصدت الغواصة عند هذا العمق السحيق البحيرات المالحة بهذا الغور التي تختلف كليا عن طبيعة مياه البحر الموجودة فوقها نظرا لشدة ملوحتها وجراء اختلاف كثافة المياه، ما أوجد شواطئ لهذه البحيرات تحت سطح البحر وكانت المياه كبريتية مركزة وأخذت الغواصة صورا وفيديوهات وعينات للطمي والصخور والمياه للأغراض العلمية والتحليل ولإجراء مزيد من الدراسات التي لا تزال تحت أنظار وتدقيق العلماء في جامعة الملك عبدالله للعلوم التقنية. وفي مجال دراسة الأحياء البحرية في البحر الأحمر قامت سفينة الأبحاث "ابن ماجد" التابعة لوزارة الزراعة والمياه في السبعينيات إلى بداية التسعينيات بأجراء مسوح بحرية لرصد الأحياء البحرية وتصنيفها ودراسة المخزون السمكي منها، وتزامن ذلك اتفاقية وقعتها الوزارة مع جامعة شمال ويلز البريطانية وهيئة السمك الأبيض البريطانية وقدمت تقارير عن طبيعة البحر الأحمر الحيوية والتنوع الأحيائي "البيلوجي" ومسارات الهجرة للأحياء البحرية وعهد لشركة "كينج فيشر" البريطانية لرسم خرائط بحرية تسهل عمليات الصيد والبحث عن الأسماك في كل طبقات البحر السطحية والقاعية وما بينهما. كذلك كما قامت سفينة الأبحاث - الظل الذهبي - التابعة لمؤسسة خالد بن سلطان للمحافظة على الحياة في المحيطات وذلك في إطار برنامج "علماء بلا حدود" الذي يتبناه الأمير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز بعديد من الدراسات البحرية، خاصة في منطقة فرسان والرامية للعناية بالشعاب المرجانية.
وستبقى علوم البحار ويبقى البحر الأحمر معينا خصبا لعديد من الثروات البحرية الواعدة قال الله عز وجل: "وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر". (الأنعام: 59). ويبقى الوضع يتطلب تفعيل الجهات المعنية دورها نحو تعظيم الاستفادة من هذه الدراسات والأبحاث والمسوح البحرية القديمة والحديثة وتحديد أوجه الاستفادة المثلى لهذه المصادر على نحو يحفظ استدامتها ويحافظ على البيئة البحرية.