«وول ستريت» القلب النابض للنظام الرأسمالي العالمي .. مصدر خطر يهدد الاقتصاد الأمريكي
على امتداد الكرة الأرضية من الصين شرقا إلى الولايات المتحدة غربا، ومن النرويج شمالا إلى جنوب إفريقيا جنوبا، فإن كبار رجال الأعمال وأباطرة المستثمرين غالبا ما يبدأون يومهم بإلقاء نظرة سريعة على العناوين الرئيسة لصحيفتهم الاقتصادية المفضلة، بعد ذلك يقلبون الصفحات سريعا للوصول إلى الصفحات قبل الأخيرة، حيث ترصد الأرقام أوضاع الأسهم في "وول ستريت".
"وول ستريت" بلا منازع هو أهم مركز مالي في العالم، وتعتبره الأدبيات الاقتصادية القلب النابض للنظام الرأسمالي العالمي، إذ يتجاوز تأثيره الاقتصاد الأمريكي إلى الاقتصاد الدولي ككل.. فما "وول ستريت"، كيف بدأت قصته، من أين جاء بتلك المكانة، كيف استطاع أن يحافظ عليها بعد أن انتزعها انتزاعا من أسواق المال في لندن عاصمة الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، وهل سيكون الشارع الأبرز في المنظومة الرأسمالية العالمية قادرا على الحفاظ على مكانته، وإلى متى.. عشرات من الأسئلة تحيط بالشارع.. فما "وول ستريت" على أي حال؟
بالعودة إلى الوراء بدأت قصة "وول ستريت" بقرار عندما كانت نيويورك مستعمرة هولندية، إذ أمر الحاكم الهولندي آنذاك ببناء جدار خشبي يحمي الجزء الجنوبي من مانهاتن من القراصنة والإنجليز والهنود الحمر، وبفضل السور الخشبي وما وفره من أمان نشأت سوق في الشارع الذي بات يعرف بـ"وول ستريت" أي شارع الحائط، في هذه السوق أخذ التجار يضاربون على بضائعهم ليتحول الأمر مع مرور الوقت إلى شكل منظم من النشاط التجاري، وبحلول 1792 اجتمع التجار تحت أغصان شجرة شهيرة كانوا يتاجرون تحت ظلالها، معلنين إنشاء النسخة الأولية من بورصة نيويورك.
"وول ستريت" حرفيا ليس أكثر من شارع في مدينة نيويورك، لكن من الناحية الفعلية أكثر من ذلك بكثير، إذ بات رمزا ومركزا جغرافيا للرأسمالية العالمية. الغريب حقا أن الشارع الذي بات رمزا لأقوى اقتصاد في العالم أي الاقتصاد الأمريكي، الذي تمتد بصماته اليومية إلى جميع الاقتصادات الدولية الأخرى تقريبا ليس أكثر من ثمانية مبان تبلغ مساحتها أقل من ميل واحد، ميل واحد، لكن نفوذه يفوق نفوذ دول تبلغ مساحتها آلاف الأميال.
في البدايات استخدم مصطلح وول ستريت للإشارة إلى مجموعة مختارة من شركات الوساطة الكبيرة التي هيمنت على صناعة الاستثمار في الولايات المتحدة، أما الآن فإن تعبير وول ستريت في اللغة المالية يشير إلى عديد من الأطراف المشاركة في الاستثمار الأمريكي والصناعة المالية، ومن ثم فإن المصطلح يشمل بين طياته البنوك الاستثمارية والبنوك التجارية وصناديق التحوط والصناديق المشتركة وشركات إدارة الأصول وشركات التأمين والوسطاء وتجارة العملات والسلع والمؤسسات المالية وما إلى ذلك. قد يكون لعديد من تلك الكيانات مقار رئيسة في مدن أمريكية أخرى مثل شيكاغو أو سان فرانسيسكو، لكن وسائل الإعلام ستشير دائما إلى الاستثمار والصناعة المالية في الولايات المتحدة باسم وول ستريت، باختصار أصبح الاسم رمزا لصناعة المال والاستثمار الأمريكية أيا كان موقعها.
وبخصوص لماذا يتمتع بهذا التأثير، يقول لـ"الاقتصادية"، آر. دي بيكاردو المحلل المالي في بورصة لندن "إن الولايات المتحدة صاحبة "وول ستريت" هي أكبر اقتصاد في العالم، إذ بلغ الناتج المحلي الإجمالي لها هذا العام 22.68 تريليون دولار أي ما يقارب مرة ونصف حجم ثاني أكبر اقتصاد في العالم الصين، الذي بلغ ناتجها المحلي الإجمالي 16.64 تريليون دولار، ومن حيث القيمة السوقية فإن الولايات المتحدة تعد الأكبر مقارنة بجميع منافسيها وبمسافة كبيرة.
ويعتقد آر. دي بيكاردو أن "وول ستريت" يتمتع بتأثير كبير في الاقتصاد العالم،ي لأنه المحور التجاري لأكبر الأسواق المالية في أغنى دولة في العالم، فهو موطن بورصة نيويورك الشركة الرائدة بلا منازع في جميع أنحاء العالم من حيث متوسط حجم تداول الأسهم اليومية، كما أن ثاني أكبر بورصة على المستوى العالمي بورصة ناسداك مقرها الرئيس يقع في شارع وول ستريت.
لكن "وول ستريت" لا يستمد مكانته من كونه اسما يعكس القوة الاقتصادية للولايات المتحدة فقط، إنما قوته الحقيقية تأتي من تأثيره في الاقتصاد الأمريكي بعدة طرق، فازدهار سوق الأسهم يترك ما يسمى في علم الاقتصاد ما يعرف بتأثير الثروة في المستهلكين، إذ يكون المستهلكون أكثر ميلا إلى التبذير وشراء سلع باهظة الثمن عندما تكون أسواق الأسهم مرتفعة وتحقق محافظهم الاستثمارية مكاسب كبيرة، وحيث إن الإنفاق الاستهلاكي يمثل نحو 70 في المائة من الاقتصاد الأمريكي، فيمكننا من هنا فهم لماذا يبدو الاقتصاد الأمريكي ومن ثم الاقتصاد العالمي مرهونا بالتطورات الجارية ساعة بساعة في "وول ستريت".
من جانبه، أشار لـ"الاقتصادية" الدكتور جون كاسدي أستاذ الاقتصاد الكلي في جامعة لندن إلى عامل آخر يظهر بوضوح في مرحلة صعود الأسواق، حيث يمكن للشركات استخدام أسهمها الباهظة لزيادة رأسمالها عن طريق عمليات الاكتتاب، ويستخدم رأس المال الجديد لمزيد من التوسع الرأسمالي عبر الاستحواذ على المنافسين أو التوسع في العملية الإنتاجية وزيادة عدد العاملين، أو تطوير العملية الإنتاجية بتحديث وسائل الإنتاج، هذا كله يؤدي إلى زيادة الإنتاج الاقتصادي، وتوليد مزيد من فرص العمل، فهناك علاقة تكافلية بين سوق الأوراق المالية والاقتصاد، وخلال الأوقات الجيدة، يقود أحدهما الآخر في حلقة تغذية مرتدة وإيجابية.
ويعتبر كاسدي خطورة "وول ستريت" لا تبرز فقط في لحظات الانتعاش بل أيضا في لحظات عدم اليقين حيث يكون الاعتماد المتبادل بين سوق الأوراق المالية والاقتصاد الواسع شديد الوضوح، وغالبا ما يكون الانكماش الكبير في سوق الأسهم نذيرا بركود اقتصادي، وأشار الاقتصادي بول صامويلسون الحائز جائزة نوبل للاقتصاد، إلى ملاحظة، أن "وول ستريت" كان لديه المقدرة على التنبؤ بخمس فترات ركود من تسع أصيب بها الاقتصاد الأمريكي.
ويعتمد تقدير الأسعار المستقبلية للأسهم والأصول المالية على المعلومات الحالية، التي تستخدم لعمل افتراضات معينة حول المستقبل التي بدورها تشكل الأساس لتقدير القيمة العادلة للأسهم أو الأصول المالية، وتبرز أهمية تلك النقطة في "وول ستريت" بشكل واضح إذا جاءت التوقعات أفضل بكثير من تقديرات الأسواق، إذ تسهم في زيادة الطلب على الأسهم وانتعاش الاقتصاد، في المقابل إذا كانت التوقعات أسوأ من تقديرات السوق فإن تأثيرها يكون سلبيا في "وول ستريت".
ويعتقد الخبراء أن "وول ستريت" لن يبرز له منافس في الأجل المنظور، والأمر لا يعود فقط إلى قوة الاقتصاد الأمريكي، إنما إلى قدرة "وول ستريت" على التأقلم مع جميع التطورات التي تشهدها السوق الأمريكية والأسواق الدولية، ومع هذا فإن بعض الخبراء الاقتصاديين يحذرون من أن يصبح "وول ستريت" عبئا على الاقتصاد الأمريكي ذاته وربما معرقلا لنموه.
بدورها، قالت لـ"الاقتصادية" الدكتورة ايملين بلاك ويل أستاذة نظم الاستثمار في جامعة ليدز، "وول ستريت" ينمو ويتغول في كثير من الأحيان على "مين ستريت" وهو مصطلح مجازي للمستثمرين الأفراد والشركات الصغيرة، وهناك صراع محسوس بين أهداف ورغبات ودوافع "مين ستريت" و"وول ستريت"، فبينما يمثل الأول المتاجر والشركات الصغيرة يمثل الثاني الشركات الكبرى والمؤسسات المالية، ونظرا إلى القدرات المالية لـ"وول ستريت" فإنه يضغط بقوة على الشركات الصغيرة غير المسجلة في البورصة، هذا عمليا يؤدي إلى توفير ما يمكن اعتباره مناخا احتكاريا وإن كان واسع النطاق نسبيا، ويتم القضاء على الشركات الصغيرة أو الاستحواذ عليها من كبرى الشركات العاملة في "وول ستريت".
تلك الملاحظات ربما كانت المحرك الرئيس لحركة "احتلوا وول ستريت" وهي حركة احتجاجية ظهرت في 2011 ضد عدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية في الولايات المتحدة، التي يعد "وول ستريت" رمزا لها. وعلى الرغم من أن الشرطة فرقت المتظاهرين الذين خيموا في حديقة زوكوتي في شارع وول ستريت، إلا أن دعواهم لتوزيع أكثر عدلا للدخل ووظائف برواتب أفضل وإصلاح النظام المصرفي تركت أصداء في الشارع الأمريكي.
على أي حال سيظل "وول ستريت" وأخباره والتطورات الجارية فيه أول الأخبار التي يتطلع رجال الأعمال والمستثمرون إلى معرفتها كل صباح، طالما ظل الشارع القلب النابض للنظام المالي الأمريكي والعالمي.