التوازن في الحياة الشخصية
في بداية مرحلة الشباب وبدء النضج العقلي والإدراكي، غالبا نحدث أنفسنا عن المراحل والأهداف التي سنعمل على تحقيقها في المستقبل، والغايات التي نعمل من أجلها في الحياة. يتمحور معظم تلك الأهداف حول تكوين أسرة متماسكة، وتأمين مصدر رزق أو كسب طيب إضافة إلى العيش بوافر من الصحة والسعادة. وتعد تلك الأهداف أهدافا سامية ومشروعة، لكن تختلف الطرائق لتحقيقها وتتنوع المستويات التي يطمح لها كل إنسان، بحسب رؤيته ومفهومه للحياة.
كما يختلف الناس كثيرا في مدى تخطيطهم لحياتهم أو دراستهم أو مستقبلهم المهني ما بين مقل ومستكثر. فما بين مستسلم للحياة ومجرياتها عامل بمفهوم "ماشي بالبركة"، وبين حريص مبالغ في وضع احتمالات متعددة، وتفكير لا ينفك يقوده للقلق والخوف على مستقبله، وكلاهما قد يؤدي لنتائج عكسية. وبرأيي أن الباعث الرئيس لتحقيق تلك الأهداف سالفة الذكر في حياتنا الشخصية يعود لمسألة تحقيق السعادة التي ننشدها. فبحسب تعريفنا لمفهوم السعادة نعمل تباعا لتحقيق ما يؤدي إليها. فمثلا، ينظر البعض للمال على أنه مصدر للسعادة، بينما آخرون يطمحون لتحقيق مكانة اجتماعية باعتقادهم أنها ستمنحهم هذا الشعور.
لكن المصيدة التي يقع فيها البعض هو غياب الاتزان بين حياتهم الشخصية والروحية وارتباطهم العائلي من جهة، والحياة المهنية أو العمل التجاري من جهة أخرى. كما أن الأمر الآخر الذي قد ننخدع به جميعا هو توقع توافر مزيد من الوقت مستقبلا لنستمتع بالمكتسبات أو المنجزات التي نعمل على تحقيقها في الوقت الراهن، بينما الواقع المشاهد أنه كلما تقدم العمر أصبحت الحياة أكثر طلبا والأشغال أكثر إلحاحا.
"كيف ستقيس حياتك؟"، عنوان مقالة نشرت في مجلة "هارفارد بيزنس ريفيو"، ومؤلفها كلايتون كريستنسن وهو اقتصادي وأستاذ جامعي ومطور نظرية "الابتكار المزعزع". يذكر في ثنايا مقاله أنه عادة ما يجتمع بزملاء الدراسة أثناء لقاء الخريجين السنوي في كلية هارفارد للأعمال منذ عام 1979. لكن يذكر بأسف أن كثيرا من زملائه غير سعيدين في حياتهم، حيث مروا بتجارب طلاق أسري أو حيل بينهم وبين أطفالهم بسبب الانفصال، إضافة إلى شعورهم بعدم الرضا عموما. ويؤكد أن من البديهي أنه لم تكن لديهم أي استراتيجية للانتهاء بحياة أسرية غير ناجحة.
لكن يربط كريستنسن بين حالات الإخفاق التي مر بها هؤلاء "مع الأخذ في الحسبان تخرجهم من جامعة هارفارد، ما يشير إلى تمتعهم بمستويات علمية واجتماعية عالية على الأرجح" وبين غياب هدف الحياة عموما. فبعد التخرج، ينهمك الإنسان في العمل غافلا عن كيفية توجيه وقته وطاقته وموهبته لتخدم أهدافه في الحياة.
من المسائل التي قد ننخدع بها أثناء تقدمنا في الحياة العملية خصوصا، هو تركيزنا على الأشياء المحسوسة للإحساس بنشوة الإنجاز. فإنجاز مشروع أو إتمام صفقة أو نشر ورقة في مجلة قد يعطينا شعورا بالإنجاز اللحظي الذي قد يلبي إحساسنا بالسعادة التي ننشدها، لكن ذلك قد يكون على حساب التزاماتنا العائلية أو علاقاتنا الشخصية أو الإيمانية.
في عام 2009 شخص كريستنسن بمرض السرطان الذي شفي منه بعد ذلك، يقول تذكرت حجم الإنجازات والأبحاث التي أسهمت في نمو إيرادات عديد من الشركات، لكن ذلك لم يكن يشكل لدي أي أهمية حال تشخيصه بالمرض. في نهاية المقال يسدي كريستنسن نصيحته بوضع معيار للحياة الشخصية يساعدنا على تقييم كل يوم نعيشه، وهل نحن فعلا نتجه باتجاه الهدف الرئيس الذي وضعناه لأنفسنا؟