قصة النجاح الكورية

بعد أن كانت من أفقر دول العالم قبل ستة عقود، حيث كان نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي فيها لا يتجاوز الـ 100 دولار على أساس سنوي عام 1961، استطاعت إلى جانب ثلاث دول آسيوية "أطلق عليها مسمى النمور الآسيوية" من تحقيق اقتصادات عالية الدخل، لتنضم بذلك إلى نادي الدول المتقدمة مع مطلع القرن الـ 21.
هذه الدولة محل الحديث هي جمهورية كوريا الجنوبية التي أثبتت باقتدار خلال 60 عاما قدرتها على تنمية اقتصادها وتعزيز تنافسيتها عبر الابتكار والصناعات المتقدمة، بعد أن كانت تصنف من الدول النامية. لكن ما سر نجاح الجمهورية الكورية الاقتصادي منقطع النظير، ولا سيما أنها تقع على مساحة جغرافية صغيرة وتفتقر للموارد الطبيعية؟
سأسلط الضوء في هذا المقال -بشيء من الاختصار- على هذه التجربة الناجعة، وكيف استطاعت كوريا نقل اقتصادها من اقتصاد معتمد على الزراعة في ستينيات القرن الماضي، إلى أن أصبحت تحتل الترتيب العاشر على مستوى العالم وفق ناتجها المحلي الإجمالي.
يعود ازدهار الاقتصاد الكوري إلى عدة عوامل أبرزها: إصلاحاتها الهيكلية التي أدت إلى فتح كوريا الجنوبية أسواقها المحلية للشركات الأجنبية، إضافة إلى دعمها سياسات التصنيع الموجه بالتصدير مثل، تخفيض الرسوم الجمركية وتقديم الدعم الحكومي لقطاع التصدير عموما. أسهمت تلك الخطوة إلى جانب تطبيق بعض القيود على الواردات في رواج الصناعة المحلية ومنافستها التصدير الخارجي. وبالفعل تضاعف حجم الصادرات الكورية ليصل إلى ما نسبته 56 في المائة من النتاج المحلي الإجمالي عام 2012، بعد أن كان لا يتجاوز 26 في المائة عام 1995.
كذلك انتهجت كوريا نهجا متدرجا في تطوير صناعاتها وفق إمكاناتها المتاحة في كل مرحلة، فبدأت بالصناعات الأساسية والخفيفة التي لا تتطلب مهارات عالية، ثم انتقلت إلى الصناعات الأكثر تعقيدا. وفي نهاية القرن الماضي أصبحت تصدر منتجاتها عالية التقنية بعد أن تمكنت من تأسيس المناخ الملائم لذلك مدعوما بقوى عاملة مدربة ومؤهلة.
كما أن الإصلاح الهيكلي في فتح الأسواق للمنافسين الأجانب وسن تشريعات جديدة لتحفيز التصدير للمنتجات الكورية لم يكن بمنأى عن تحسين بيئة ممارسة الأعمال والتجارة عموما في كوريا. فوفقا لمؤشر البنك الدولي لممارسة أنشطة الأعمال، فإن كوريا الجنوبية تحتل المركز الخامس عالميا من حيث سهولة ممارسة الأعمال حسب بيانات عام 2021. وإضافة إلى العاملين السابقين، فقد استثمرت كوريا كثيرا في مجالات البحث والابتكار، ولا سيما الابتكار التقني، فعديد من مخرجات الابتكار التقنية الكورية لا تخطئها العين سواء في الأسواق المحلية أو العالمية.
لكن كيف للمملكة أن تستفيد من التجربة الكورية أو غيرها في تعظيم اقتصادها وتنويع مصادر دخلها ومنافستها في السوق العالمية؟ أرى أن المملكة بدأت بالفعل في رسم مسارها الخاص بذلك الذي يسير بوتيرة متسارعة سواء على صعيد عقد الاتفاقيات والشراكات مع الدول ذات الميزة التنافسية مثل كوريا الجنوبية، أو بالإصلاحات الهيكلية داخل المملكة لتحديث الاقتصاد.
فخطوة إنشاء هيئة تنمية البحث والتطوير والابتكار أو الهيئة العامة للتطوير الدفاعي تعد أبرز الشواهد على عزم المملكة على تمكين البحث والابتكار ليكون عنصرا فاعلا في الاقتصاد الوطني.
من الخطوات المهمة التي تتبناها الدول المتقدمة لتمتين اقتصاداتها وكانت في وقت سابق تصنف كدول نامية، هو الاستثمار في العنصر البشري تأهيلا وتعليما وتدريبا. ففي التجربة الكورية كان معظم الأبحاث التقنية والابتكارية تتم بعقول أبنائها، لكن بناء المخزون المعرفي والعلمي يتطلب صبرا ووقتا ليس بالقصير، وتبني قاعدته الأساس الحكومات ومن ثم تسلم الراية للقطاع الخاص لمواصلة مشاريع البحث والابتكار. كما تجدر الإشارة إلى أن التقنية وحدها لا يمكن الاستفادة منها أو استخدامها ما لم يحدد سوقها المستهدف أو يعرف الغرض الذي طورت من أجله. ولتعزيز التنافسية في السوق العالمية لا بد من معرفة مكامن القوة وكيف توظف التوظيف الأمثل مع منح القطاع الخاص المساحة الكافية للإبداع والابتكار.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي